** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله Empty
04042018
مُساهمةباسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله

باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله 1f52f79ee0b7cd4d5fcfbeb4c25380b8-750x430

إن الحديث عن عودة معاصرة إلى باسكال مع ألان باديو ولوسيان غولدمان وجان لوك نانسي وإيمانويل ليفيناس وآخرون هو ما ستعنى به المقالة الراهنة؛ التي ستتخذ في قراءتها مسارين. فـ”باسكال” في هذا المقام هو اسم لـ “الرهان”؛  الذي هو فلسفة عملية أمام عالم منغلق نظرياً. يتميز فيه “المراهن” بموقفه من القانون والعالم؛ فهو أمام-القانون-خارج- القانون، وفي-العالم-خارج-العالم (وضعية “المراهن” معادلة في الحقيقة لوضعية “التفكيكي” لدى ديريدا). ولعل ما أغرى الفلاسفة المعاصرين في رهان باسكال، هو أن “المراهن” لا يرتبط بالعالم وفق عقدٍ مُحافظٍ، بل  يقف على مسافة متساوية من جميع أطرافه، وبذلك يكون قادراً على التدخل (باديو) والديالكتيك (غولدمان(.
لكن باسكال هو أيضاً اسمٌ لشكل من أشكال عودة “الله”، وذلك بعد الإعلان عن موتٍ محدد له. إذ تتحرك الفلسفة اليوم – أو جزء مهم منها – في فضاء تشكَّل بعد أطروحة (أو، حدث) موت الإله. ونستطيع أن نلمح القسمات الرئيسة لهذا الفضاء الفلسفي من خلال تفحصِّ مقاطع أساسية في الفلسفة المعاصرة. فربما كان اسم إيمانويل ليفيناس هو العنوان الأبرز لهذه العودة.
رأى ليفيناس، رداً على هيدغر؛ الذي أناط بالفلسفة مهمة إنقاذ الكينونة من النسيان،  أن على الفلسفة مهمة أكثر إلحاحاً، وهي إنقاذ الله من الكينونة. فقد كان غرض الفيلسوفين الخروج من طريقة في التفلسف حكمت تاريخ الفلسفة حتى الآن، وصفها الأول؛ أي ليفيناس بالأنطولوجيا، والثاني بالأنطوتيولوجيا. وتعرف الأنطوتيولوجيا بأنها طريقة في التفلسف خلطت بين الكينونة والكائن، فاهتمت بإبراز خواص الكائن ونست الكينونة. إذ لطالما كانت الفلسفات تبدأ بالتحدث عن الكينونة بما هي كينونة، لتنتهي بالحديث عن الكائن الأعلى والأسمى. أما ليفيناس فرأى أن الخلط ناجم عن نظرتنا إلى الله بوصفه كائن، وهذا ما يدفعنا إلى الخلط بين مبحثين: الأنطولوجيا التي هي علم الكينونة، والإيطيقا التي هي مبحث في ما وراء الكينونة، حيث الآخر.
وعليه؛ يشترك الفيلسوفان في ضرورة الفصل بين المبحث الأنطولوجي والمبحث اللاهوتي أو الإيطيقي، وإن اختلفا في تحديد أولية هذين المبحثين. فهيدغر أعطى الأولية للأنطولوجيا، أما ليفيناس فأعطاها للإيطيقا. وعند هذا الاختلاف افترقت فلسفتاهما إلى ما لا نهاية. إذ لا يريد هيدغر  للمقولات اللاهوتية والإيطيقية أن تلوث أصل ونقاء معنى الكينونة، في حين يرى ليفيناس في المقولات الأنطولوجية اختزالاً لعلو الآخر وغيريته.
إن “إنقاذ الله من الكينونة” هو إذاً مشروع ليفيناس الفلسفي الذي أعطاه اسم “إيطيقا”. إلا أن هذا المشروع متجذر في التراث الفلسفي، ويمتد حتى أفلاطون الذي يضع مثال الخير في ما وراء الوجود: “ألم يتم الإعلان عن الفلسفة كمحبة الحكمة عبر مقولة الخير في ما وراء الماهية وعلى رأس المثل في الكتاب السادس من محاورة الجمهورية؟
يتساءل ليفيناس في مقدمة الطبعة الألمانية لكتابه الأساس الكلانية واللامتناهي (Totalité et infini). وبإمعان النظر نجد أن المشروع السابق متجذرٌ أيضاً في فلسفة ديكارت الذي، وفق قراءة ليفيناس، برهن استحالة أن يتشارك الله والكينونة في مفهوم واحد[i]. وكذلك كانط؛ الذي برهن من خلال  فصله الجذري بين الملكات، عدم “إمكان” العقل الخوض في موضوعات الميتافيزيقا، وفكرة الله على وجه الخصوص. ولعلنا نتلمس مشروع ليفيناس في فلسفة باسكال، على وجه الخصوص، الذي وفق قراءة الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، أراد أن يُنقذ الله من مفهوم الإله المجرد: الإله الميكانيكي (ديكارت) أو الرياضي (لايبنتز).
فالفصل بين الإلهين (الميتافيزيقي والحي) لا يعني إبعاد هذا الأخير عن متناول العقل، ولا يعني إقصاءه من مجال التأمل الفلسفي. ويبدو أن الفصل الكانطي بين الفضاءين سيأخذ منحىً آخر وفق قراءة جان لوك نانسي، إذ سيترأس العقلَ فيحد بذلك العقلُ الإيمانَ – من دون أن ينفيه. إن الفصل هنا يأخذ معنى “الإنقاذ” فحسب، أي؛  إخراجه من ثنائية (الإيمان، الإلحاد). كما يعني النظر إلى الإلحاد من زاوية أخرى، لا يتناقض فيها مع الإيمان إنما يختلط به ليشكل مكوناً أساسياً له.
صحيح أن الإلحاد (a-théisme) ينفي الإيمان (théisme)، لكن – وكما سيقول الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في معرض تعليقه على مقولة هيدغر “وحده الإله يمكنه أن يخلصنا”[ii] – وكما بتنا نعرف أيضاً بعد التفكيكية، “يُبقي النفي في داخله ما ينفي”. وكذلك يؤكد ليفيناس أنه، داخل ثنائية المتناهي (fini) واللامتناهي (in-fini)، اللامتناهي ليس نفياً للمتناهي وإنما يُبقيه في داخله، لتُعبر البادئة (in) عن تضمن ما يُنفى.
لكن هذا الفصل بين الإلهين، وإن بات ضرورياً في لحظات معينة تمثلت في التطور العلمي وبروز ذات علمية لا تقنع بوجود إله ميتافيزيقي أو حي، إلا أنه ليس إلا خطوة نحو تأكيد حصريةِ الإله الحي. فعملية إماتة الإله الميتافيزيقي بدأت منذ فجر الفكر اليوناني – على ما يؤكده ألان باديو في قراءةٍ لامعة لمقولة نيتشه، بعنوان “موت الإله”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الإعلان التاريخي لموت الإله إنما هو إثبات لوجوده وذلك خلافاً لما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى. إذ لا يموت إله إلا إن كان موجوداً.
وعلى الرغم من أن حقيقة الإعلان السابق تغيب عموماً عن الأذهان، إلا أن هيدغر كان قد تنبه إليها في إعلانه هو الآخر عن انبعاث محتمل للإله. فالإعلان عن موت الله قد يعني أيضاً، وبشكل متواز، الإعلان عن عودته المحتملة. وبهذا أيضاً يمكن أن تندرج هذه المقولة داخل سياق “إنقاذه”. تنبه نانسي إلى هذه الحقيقة، وذهب أبعد  من الحديث عن إمكان متضمن محتمل، قائلاً: “إن تعبير “موت الله” ذاخر بإمكان، إن لم يكن  بضرورة انبعاثه الذي من شأنه أن يُعيد كلا من الإنسان والله إلى وجود محايث مشترك.”[iii]
وعليه؛ نقول: لطالما كان هذا الفصل لصالح الإله الحي، أو إله الأديان، لأن الإله الميتافيزيقي وُلِدَ ميتاً. إذ ثمة في تاريخ الفلسفة محاولات لبناء فضاء فلسفي ذي جنس أعم من الثنائية المذكورة، لا يُقصي الإلحاد في داخله الإيمانَ إنما يؤسس له. وبذلك يمكننا  القول بعبارة مختزلة: يستدعي وجود الله داخل هذا الفضاء وجود الملحد. وهذا ما سيؤكده ليفيناس بقوله: “إنه ولا ريب لنصر عظيم أن يخلق الخالق كائناً قادراً على الإلحاد.[iv]
وتبعاً لما يقول باديو: سينشأ الإله الميتافيزيقي داخل ثنائية (إله ميتافيزيقي/إله حي)– كعنصر في آلة حرب ضد الإله الحي. فهذا هو سبب وجوده، و”برهانه” الأول. لذلك سيدرك باسكال وليفيناس وجان لوك ماريون وآخرون، أن “إنقاذ” الله ليس في “برهنة” وجوده؛ لأن ذلك لن يفضي إلى شيء سوى تقوية آلة الحرب ضده، وإنما في تفكيك هذه الآلة وتعطيلها، ليس من خلال نقد العقل والإله الميتافيزيقي أو تكديس البراهين، إنما في إنقاذه من ثنائية الوجود واللاوجود؛ في إله متعالٍ حتى الغياب (ليفيناس)، أو  إله بلا كينونة (ماريون). ولطالما كانت  هذه المواجهة بين الإلهين لصالح الإله الحي، لأنها لم تقل أكثر مما ينبغي  فيما يخص تعاليه. فمقولة (إن الله غير موجود) لا تزيد عما قاله باسكال وسيقوله ليفيناس وماريون، ونانسي نوعاً ما. وما علينا لفهم الإخفاق في هذه الحرب إلا أن نقرأ ما قاله سارتر بشيء من الامتعاض الذي يشي بإخفاق آلة الحرب هذه: “لربما انسحب (الله) خارج العالم، بعيداً، كروح ميتة، ولعله لم يكن سوى حلم حاول هيغل أن يستبدل به نسقه، وزال النسق؛ واستبدل كومت به دين الإنسانية، وزالت الوضعية. وقد ظن بعضنا في فرنسا وغيرها عام 1880 أنه أنشأ أخلاقاً علمانية، وعشنا مرحلة من هذه الأخلاق، يشهد على إخفاقها باتاي وآخرون كثر هنا.”[v]
انقلبت المعادلة في الفلسفة المعاصرة، فبدل البحث عن أشكال الوجود من دون إله صرنا نبحث عن أشكال عودة إله من دون وجود. وبدل البحث عن روحانية من دون إله (كومت)، أو إنسان يأخذ مكان الله (فيورباخ)، أو خطيئة ليست في حاجة إلى الله (كامو)،. وحتى النظم الفلسفية التي ذهبت تبحث عن عالم تتحقق فيه العدالة الإلهية من دون إله، كهيغل، أو ماركس والشيوعية التي، كما يقول ريمون آرون: “عهدت للبروليتاريا دور المخلص الجمعي[vi]“، أو إنها مسيحانية: “إيمان بالبروليتاريا وبالتاريخ، بإحسان لكل من يعاني وسينتصر غداً، أمل في غد مشع لمجتمع بلا طبقات”[vii] – صرنا نبحث عن عالم  يُعيد كلّاً من الإنسان والله إلى وجود محايث مشترك، كما قال نانسي.
دينية من دون دين، أو، دين من دون إله. يقول ديريدا في هذا الصدد: “يمكننا القول، مع أخذ العلم بمقدار لا بأس به من الفروقات، إن جانباً من كانط وآخر من هيغل، وكيركيغارد طبعاً – وبغرض الاستفزاز سأتجرأ وألحق بهم هيدغر أيضاً – ينتمون إلى تراث يقوم على تقديم نسخة غير دوغمائية عن المعتقد الديني. نسخة فلسفية وميتافيزيقية، نسخة مفكِّرة في أحسن الأحوال، تكرر بلا دين إمكان الدين.[viii]
يورد شاتوبريان في كتابه عبقرية المسيحية قولاً لفولتير مفاده: “باسكال، هذا العبقري الجليل، المولود قبل أوانه بقرن”. ويشرح هذه العبقرية بالكلمات التالية: “نتحدث عن رجلٍ، ابتكر – في الثانية عشرة من عمره وباستخدام الأعواد والدوائر – نظريات رياضية. وفي السادسة عشرة، كتب رسالة في الأشكال المخروطية كانت من أكثر الرسائل تبصّراً منذ العصور القديمة. وفي التاسعة عشرة، صنع آلة طبّق فيها علماً كاملاً لم يكن موجوداً إلا في الأذهان. وفي الثالثة والعشرين، برهن ظواهر ثقالة الهواء مبطلاً بذلك خطأً من أكبر أخطاء الفيزياء القديمة. وفي ذاك العصر الذي بدأ الناس فيه يتلمّسون النور، أدرك العدم الذي تقوم عليه العلوم ووجه خواطره نحو الدين. رجل سقيم وموجوع دائماً منذ تلك اللحظة حتى مماته في التاسعة والثلاثين. رجل أرسى اللغة التي كان يستخدمها بوسيه وراسين، فكانت كتاباته نموذجاً للمرح التام كما للبرهان المتين. رجلٌ حلّ في الهنيهة التي كانت تتخلل آلامه واحدة من أعقد مشكلات الهندسة بقصد التسلية، ورمى على الأوراق خواطر تحمل بصمة الله كما الإنسان. هذه العبقرية المخيفة كان اسمها بليز باسكال.” وختم شاتوبريان الفصل الذي خصصه للحديث عن باسكال بملاحظة غاية في الأهمية، سنعود إليها في عرضنا لقراءات باديو وغولدمان، يقول فيها: “إن كان الله لم يسمح لباسكال إتمام عمله (خواطر)، فذلك ربما لأنه من غير المستحسن أن تتوضح بعض الشكوك حول الإيمان[ix].”
وتجدر الإشارة إلى أنه ليست الغاية من فحص القراءات المتعددة لباسكال، تبيان أهمية هذا الفيلسوف بالنسبة إلى مؤيديه – وهم كثر، أو دحض حجج خصومه – وهم كثر أيضاً، إنما الوقوف عند دلالات هذه العودة، والاهتمام المتزايد به؛ إذ تنطوي هذه العودة على حاجة ملحّة، بعد موت معين للإله، أو بعد موت إله معين. نقول: في ثنايا القراءات التي سنتفحصها ثمة شكل معين ومحدد في كلّ منها على حدة، أي من أشكال العودة للإله، إله شعري مع باديو، وإله خفي مع غولدمان. شرط أن تقترن هذه العودة بموقف مجدِّد للعالم، أو بخطاب نضالي بالنسبة إلى باديو، أو ديالكتيكي سبّاق على ماركس وأنغلز بالنسبة إلى غولدمان؛ ذلك هو ما يجعل  باسكال معاصراً لنا. إن الأهمية التي نعزوها إلى باسكال في هذا المضمار تكمن في أن الإله العائد تتوقف عودته على موقف من العالم ينطوي على فاعلية إنسانية أساسية تنطوي هي الأخرى وتتوقف على “تدخل” – كما سيؤكد باديو – من طرف الإنسان، ورؤية تركيبية ديالكتيكية – كما سيؤكد غولدمان.
بقي أن نشير إلى  أن الفيلسوفين اللذين اخترناهما هنا هما فيلسوفان “ماديان”، بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان تاريخية فلسفية (ماركسيان، إلحاديان وتاريخيان وجدليان). أمّا أن يثير باسكال، هذا الفيلسوف المسيحي، اهتمام هذين الفيلسوفين، وأن يجدا في فلسفته (وخطاب الرهان على وجه الخصوص) قاعدةً ومنطلقاً لبناءٍ فلسفي معاصر يجيب عن مسائل معاصرة، لهو أمر يستحق المساءلة والبحث! فباسكال لم يكن مؤمناً إلا بمقدار ما كان ملحداً، ولم تكن رؤيته للعالم مأساوية إلا بمقدار ما كانت ديالكتيكية. وعلى  الرغم من عقيدته المسيحية لم يكن يرى في الإله خيراً محضاً، بل وحدة الخير والشر، أو تركيباً للمتناقضات. إله حاضر غائب، مختبئ، وجوده يقين غير مؤكد، لا نحصل عليه إلا من خلال الرهان. بالتالي، لم تُفض “ماديتهما” إلى إلحادية؛ دأب أغلب الذين ينتهجون هذا النمط من التفكير على المناداة بضرورتها للانتقال إلى الاشتراكية؛ وهي قراءة أكّد جان فرانسوا ليوتار خطئها: “يقول ماركس عام 1844 إن الاشتراكية ليست بحاجة إلى الإلحاد، لأن مسألة الإلحاد هي ذاتها – موقعيّاً – مسألة الدين.[x]
– باديو قارئاً باسكال: إله الشعر
لحظة الإنقاذ الأولى مع باسكال. تمت هذه العملية عندما نقل باسكال مسألة وجود الله من منطق “براهين وجود الله” إلى منطق مغاير تماماً.، منطق فيه شيء من “الجنون” – حسب  باديو، مشيراً بذلك إلى ما يسميه “تدخل” باسكال؛ أي هذه اللحظة التي قرر فيها هذا الأخير أن يجدد النواة الحَدَثية للعقيدة المسيحية. ونقول: “جنون”؛ لأن باسكال كان يبحث عن “استفزاز” العقل والذات العلمية الناشئة.
علم باسكال أن الإكثار من براهين وجود الله بالنهل من التقدم العلمي الحاصل لن  يسهم في إنقاذه. فما عاد بإمكان أي بناء يقوم على البرهان والعقل كالذي سلكه الآباء في القرون الوسطى أن يصمد أمام الذات العلمية الجديدة. إن أي نهج من هذا النوع لن يفضي إلا إلى الإغراق في الإماتة الميتافيزيقية للإله من جهة، ولن يُقنع أو يرضي “ممثلي العالم الجديد أي؛ الماديين طالبي اللذة واليائسين”[xi]، من جهة أخرى. يتوجه باسكال إلى الذين يسلكون منهج البراهين بشيء من الاتهام بأنهم يؤكدون “الظلمات والدياجير” التي يراها الملحد، ويؤكد أن منطق البرهان “يولد الاحتقار[xii]“.
رفض باسكال أن يسلك واحداً من الطريقين المعقولين في ذلك الوقت، واختار طريقاً غير معقول؛ أي لا يمكن التأسيس له وفق البرهان أو المنطق. الطريق الأول هو أن يحاول تغيير وجهة التقدم العلمي المتمثل في ظهور رياضيات اللامتناهي والميكانيكا العقلانية ليدعم وجود الله. لكنه أدرك أن هكذا إله لن يختلف كثيراً عن إله ديكارت الميكانيكي الذي سيتحول إلى الإله الساعاتي على يد فولتير[xiii]. والطريق الثاني يتمثل في محاولة تأسيس  فضاءين مختلفين من المعرفة، أمن خلال فصل الفضاء الديني عن التقدم العلم يحميه بذلك من يقين العلم، وهو الطريق الذي سلكه كانط. لكن باسكال أدرك أن في ذلك،هروباً وتأكيداً على سيادة الإله الميتافيزيقي الميت، الإله المبدأ والمحرك الذي لا يتحرك. هذا من جهة أما من جهة أخرى، فقد رأى باسكال ضمن الشروط الجديدة التي خلقها التقدم العلمي وأمام ممثلي العالم الجديد، أن المسيحية أمام رهانٍ يتمثل “بقدرتها على ممارسة الإغواء الذاتي”[xiv] على هؤلاء. وأكثر من ذلك، فإن المسيحية تجد نفسها أمام شروط مماثلة لتلك التي رافقت نشأتها الأولى، واستدعت فيما بعد “تدخل” الحواريين. لذلك يرى باسكال أن المسيحية على المحك، “تراهن فيه على وجودها”. “إن جلّ هدف باسكال هو حمل الكافر على التدخل من جديد، وكأثر لهذا الرهان أن ينساق إلى الاتساق الذي يقوم عليه البرهان. فما فعله الحواريون ضد القانون يمكن الملحد العدمي الذي يمتاز بأنه لا يرتبط بالعالم بأي عقد محافظ أن يفعله مرة ثانية.”[xv]
إن ذلك لتأويل جريء وخطير من طرف باديو الذي يرى أن باسكال ينوط بالملحد المهمة التي قام بها الحواريون. وهو ما سنراه أيضاً عند ليفيناس الذي سيجعل من الأنا الملحدة شرطاً ضرورياً للعلاقة مع الله.
إذ تتبعنا مع باديو حيثيات “الرهان” عند باسكال نجد أنه ينبه إلى أن باسكال لم يكن يتوجه في رهانه و”خواطره” إلى المؤمنين بل إلى الملحدين العدميين والكفرة، لا لحملهم على الإيمان فحسب، وإنما لحضهم على التدخل بدورهم أيضاً.
يرى باديو جواباً على السؤال الآتي: إلى من وجّه باسكال رهانه؟ في أن الأخير ما زال فيلسوفاً معاصراً؛ “هذا الكاتب ذو الخبرة الواسعة تجاوز عصره من خلال ميله النضالي”[xvi]. حداثته مازالت حتى يومنا هذا تبعث على الحيرة. فباسكال لم يوجه رهانه إلى المؤمن ذي الهمة الباردة[xvii]، أو إلى حاملي معتقد الربوبية الديكارتية[xviii]. فهؤلاء هم هواة التسويات، إنهم  يتكيفون مع الشروط الاجتماعية القائمة ليحافظوا على الهيمنة الاجتماعية للدين. لا يحوزون “قوة عقل”. هذه الأخيرة لا يشهد عليها سوى الملحد العدمي أو الكافر؛  “يفضل باسكال الملحد العازم  (…) على اليسوعي أو المؤمن المتردد”[xix]. فلهؤلاء يكنّ باسكال كل الازدراء كما يتوجه إليهم بنبرة عنيفة، وسخرية لاذعة، وبمقدار لا بأس به من سوء الطوية. إنه لا يتوجه إليهم دون غيرهم فحسب، بل يضع نفسه مكانهم. إن باسكال يعترف أمام الكافر أنه لن يستطيع مساعدته بالبرهان على وجود الله، إذ حتى هو  لا يمتلك هكذا براهين. كما أنه لن يستطيع أن يبرهن له ضرورة وجوده. فباسكال يتحدث عن “ضرورة الرهان” لا عن ضرورة “وجود الله”. وباسكال لا يتحيز إلى المؤمنين بل يخاطب الملحد العقلاني، -لأنه يفهمه ويدرك بؤسه-، ليقول له: أن لا براهين على وجود الله، لكن لا براهين على عدم وجوده أيضاً.
فوحده الإلحاد يشهد على قوة العقل[xx]. لم يكن باسكال يروم إنشاء براهين جديدة على وجود الله. إذ ليست معرفة الله المعاصر للنظام المعرفي الجديد هي الهدف إنما كانت قوة نفس الملحد هي التي تجذبه. لذا فقد كان المحرك الأساس لفلسفته يقوم على السؤال الآتي: “ما الذي قد يدفع ملحداً أو كافراً للانتقال من الكفر إلى المسيحية؟”[xxi]. من هنا تأتت ضرورة الرهان، إذ تتجلى ضرورة الأخير في غياب البراهين، أو استحالة البرهان[xxii]. وقد ذهب ليفيناس أبعد من باسكال في هذا المنطق، فغياب البرهان على حد اعتقاده هو  دليل على أن الله غير موجود. وذلك ليس بمعنى أنه عدم، وإنما هو غير الوجود أو في ما وراء الوجود. فالله يتعالى ولا يوجد، إنه يتعالى حتى الغياب المطلق. وأي قول أنطولوجي عن الله سيؤدي إلى اختزال ما يمكن أن نسميه آخريته وعلوه. فالله ليس موضوع برهان، بل حدثُ “لقاء” فحسب، وهذا اللقاء هو ما يرومه الرهان.
ولعل ما سنجده لدى ليفيناس نقرأ إرهاصاته في خواطر باسكال. فباسكال، كما ليفيناس، يصبّ جلّ اهتمامه على الملحد. إذ يرى لديه قوة عقل لا تتوافر لدى المؤمن الذي له إله يعميه، ليعيش في سكينة وتراخٍ بلا طائل. وإذا ما سألنا عن مورد هذه القوة، فسنجدها بالنسبة إلى باسكال في الشك ذاته. ليس الشك الذي يبرز عند  ديكارت (“ديكارت غير مفيد ومتردد[xxiii]“)، وإنما الشك كانفصال عن الله. ويتبدى قطبي الانفصال لدى باسكال كما يأتي: الشك لدى الملحد، واحتجاب الله؛ وهما قطبا الإيمان. فالله محتجب[xxiv]، والسماوات خالية (“إن هذه الرحائب اللامتناهيات لتخيفني بصمتها الأزلي[xxv]“). إذ يرى باسكال في احتجابه كينونة له (“ما كان الدليل على الله في غيرة الباحثين عنه فحسب بل في عماوة الذين لا يبحثون عنه.[xxvi]“). وهذا ما سنقرأه لدى ليفيناس وباتاي وبلانشو الذين سيجعلون من غياب الله كينونة له. لكن باسكال يقول أيضاً بضرورة الشكّ في الإيمان، ويسمي غياب الشك إهمالاً (“يعيشون في الإيمان بمثل هذا الإهمال”)، أو عماوة (“ثمة إلهٌ يعميهم”). يقول باسكال بوضوح في هذا المقام: “الذي أراه هو أكثر من أن أستطيع معه الإنكار، وأقل من أن أستطيع معه التيقن.”[xxvii]
يضعنا باديو في معرض تعليقه على مقولة “موت الإله” لنيتشه أمام خيارين فيما يخص مسألة وجوده. فإما أن يكون هذا الإله ميتافيزيقياً، وهو إله الفلاسفة الذي ما إن وُجد، ماتَ، أو أنه وُلِدَ ميتاً، منذ الفجر الأول للفكر اليوناني؛ “ربما يأخذ الإله وقتًا طويلاً في احتضاره، لكنْ لنعلم أننا ومنذ عصور عدة لم ننشغل إلا بالأشكال المتتالية لتحنيطه.”[xxviii] وهو إله تتلخص قصة وجوده بالإماتة المتتالية لتعاليه، منذ أرسطو (“فالإله بالنسبة إليه هو الوجهة القصوى للحركة بوصفه المحرك الأزلي الذي لا يتحرك. لكن من سيتوقع أن الحياة يمكن أن تكون سكوناً أزلياً؟ هذا هو تعريف الموت”) وغاليليه، وديكارت؛ (الذي بالنسبة إليه “يضع الكونُ – الذي هو نوع من رسم رياضي مادي – الإله ضمن الانتظام الرياضي المرحلي للامتناهي الواقعي”) ومع فلاسفة عصر الأنوار (الذين يرون أنه “علينا أن نستبعد [من السياسة] كل لجوء إلى التنظيم الإلهي الكلي القدرة”)، و كانتور (“الذي يطرد الإله من تعيُّنه الموضعي اللانهائي ليقيم مكانه العدد والحساب”) والتحليل النفسي وفيورباخ. أما الإله الثاني فهو الإله الحي، إله إسحاق وإبراهيم ويعقوب[xxix]. فهو إله الأديان، وهو المقصود – على ما يرى باديو – في مقولة نيتشه التاريخية. هذا الإله الذي لا سبيل إلى إنقاذه. إن منطلق باديو هنا تمييز من النوع الكانطي، أي، فصل تام بين الإلهين: الإله المبدأ والإله الحي. فالأول لا يمكن أن يكون حياً، والثاني لا يمكن أن يكون ميتافيزيقياً. وإن أي محاولة لبثّ الحياة في الأول أو جعل الثاني شمولياً سيخرج المبحث عن الإطار الفلسفي. لذلك، يقول باديو عن باسكال: إنه “مناهض للفلسفة، anti-philosophe”. وهو وإن اهتم بباسكال ووصفه بما ذكرناه آنفاً  فلأنه “قدم مذهباً صورياً في التدخل”: “موت إله الدين لا يؤثر في مسألة مصير إله الميتافيزيقا الذي لا صلة لهُ لا بالحياة ولا بالموت (…) هذا يفسر لماذا لا يمكن لهيدغر أن يجعل من مقولة نيتشه “مات الإله”  وجميع اللعنات والتجديفات ضد المسيحية جزءًا من تفكيك مسار الميتافيزيقيا الأنطولوجية التي ستأتي فيما بعد. فهما حقيقة شيئان منفصلان. والأمر بعيد كل البعد عن أن ينتج آليًا عن غياب الديني غياب للأساس الميتافيزيقي الأكثر مقاومة وصلابة طالما أن الميتافيزيقيا لا تشير إلى شيء سوى المبدأ الذي لا يمكن أن يموت بالمعنى الذي تحدثنا عنه سابقًا.[xxx]
لكن، وفي الحديث عن تفكيك الميتافيزيقيا الأنطولوجية، ماذا عن إعلان هيدغر أن “وحده إله يمكن أن يخلصنا”؟ ألا تتضمن هذه المقولة إشارة إلى مقولة نيتشه؟ وكيف؟ ألا يمكن أن تهدد بشكل كليّ موضوعة الفصل بين الإلهين؟ فنحن نقف أمام هذه المقولة مع الخلاص والإنقاذ من جديد، وهي مقولة أربكت فلاسفة الإلحاد (“لا أحمل إلى هذه المقولة إلا الازدراء، يقول نانسي، إلا أنني لا أستطيع إلا أن أتناولها فلسفياً”)؛ فالإلحاد، بوصفه الفكر التقليدي للمتناهي يقف على طرف نقيض من  فكر اللامتناهي، بوصفه العنصر “الذي تشكل الغرب من خلاله”. ذلك الفصل بين الإله المبدأ الذي لا يمكن أن يموت لأنه غير حي، والإله الحي الذي لا يمكن أن يوجد ميتافيزيقياً.  سؤالنا هنا: أليس ثمة خيار ثالث؟
يجد باديو لما يسميه “معضلة هيدغر”، مخرجاً. وهي “معضلة”، لأن هيدغر وضع نُصب عينيه مشروعاً يقتضي- كما ذكرنا بداية –  إنقاذ الكينونة من النسيان، أو الخروج من الأنطوتيولوجيا التي حجبت مسألة الكينونة داخل مسألة الموجود الأسمى، أو اختزلت تلك إلى هذه. ويتلخص مخرج باديو في “تعددية معاني” كلمة الإله.
فالإله الذي يمكن أن ينقذنا ليس الإله المبدأ المسؤول عن نسيان الكينونة،  أو إله الأديان الذي وافق هيدغر نيتشه في إعلان موته (“وإن كان ذلك مع بعض المراوغة” – يقول باديو!). ويرى الأخير ؛ أي باديو تبعاً لمنطق  “تعدد المعاني” هذا،   ولادةً لما يسميه “إله الشعراء”، أو إله القصيدة. إذ يحقق هذا الإله المعادلة الصعبة أو الخيار الثالث؛ “هو ليس ذات الدين الحية على الرغم من أنه ينبغي العيش معه، كما أنه ليس ليس مبدأ الميتافيزيقيا على الرغم من أن الأمر منوط بإيجاد المعنى المدبر للكلية.” والعلاقة معه ليست لقاءً أو حداداً، كما أنها ليست نقداً، وإنما علاقة حنين. والمهمة الموكلة لهذا الإله هي أن يُعيد السحر إلى العالم، ويخلصنا من السوداوية والكآبة التي نتجت من انسحاب الإلهين الآخرين. إن عودة الإله في القصيدة هي التي ستنقذنا من فكر التناهي الذي تولّد  عن انسحاب الآلهة. إلا أن باديو يرى في عودة الإله هنا خطراً على الفكرلأنها تأخذ شكل “قطيعة مع ما يستطيع الفكر فعله”.
يرى باديو  في إله الشعر انحطاطاً للفكر الغربي، ويدعو إلى القطيعة معه من خلال إلحادية معاصرة تُعرِض عن فكر العودة والحنين؛ “علينا أن نكفَّ عن أن نَعْهَدَ إلى الإله – موضوع حنين العودة – الثمن الناتج عن موت الإله الحي، وتفكيك الإله الميتافيزيقي، علينا باختصار أن نتخلى عن كل وعد.” وإذا كان ينبغي التخلص من فكر التناهي فذلك ليس من خلال عودة محتملة لإله محتمل، بل بــ”إزالة تحالف اللاتناهي الأزلي مع الواحد وإرجاعه. كما تدعونا إلى ذلك الرياضيات منذ كانتور، أي الدعوة إلى  بساطة الوجود المتعدد.” كذلك على القصيدة أن تقوم بإعدام إلهها الخاص، وأن تعلن هي الأخرى إلحاديتها، وذلك بأن تبتعد عن الأسلوب الحنيني،  وتتخلص من الوعد، وتهب نفسها إلى سحر العالم لا إلى عودة سحر زال بزوال الآلهة.
وبالعودة إلى باسكال، نسأل السؤال التالي: من يكون باسكال بالنسبة إلى باديو؟ وماذا يمثّل؟ لماذا أستأثر باسكال، وهو المناهض للفلسفة بإقراره (“ومتى كان ذلك صحيحاً فلا نرى أن كل الفلسفة تستحق ساعة عناء”[xxxi])، بكل هذا الاهتمام لديه؟ بإجابة سريعة على السؤال السابق نقول: إن  باسكال يمثل بالنسبة إلى باديو ما كان يمثله الملحد بالنسبة إلى باسكال. إلا أن هدف باديو ليس الدين، أو بمعنى أدق ليس هدف باديو تجديد  النواة الحدثية للدين في العالم المعاصر، إنما الفلسفة. ف فإن كان باسكال يرى لدى الملحد قوة نفس وعقل تمكّنه من تجديد الديانة المسيحية، فإن باديو يرى أن لدى باسكال؛ المناهض للفلسفة كما الملحد المناهض للدين، قوة خطاب تمكّنه من تنشيط النواة الفلسفية.
يرى باديو أن الفلسفة تراجعت إلى الخطوط الخلفية أمام التقدم العلمي والفني. فالحدث الغاليلي والثورة الفرنسية أرجعا الفلسفة إلى العصر الكلاسيكي وربطاها بالشرط السياسي. ومع هيدغر ونيتشه،  امحت الفلسفة أمام القصيدة. ويرسم باديو للخروج من هذا المأزق هدفاً يراد به تحرير الفلسفة من الأسر الثلاثي المتمثل بـ (بالعلم والتاريخ والقصيدة). إذ تتحرر الفلسفة ما إن تنعتق من خطابات المتناهي الثلاثة هذه نحو خطاب للامتناهي تحتل الفلسفة فيه – لا الدين – المكانة الأبرز. خطاب للامتناهي و – مع ذلك – إلحادي؛ “إننا ملحدون، لكننا لا نمللك الأدوات لأن نكون كذلك طالما تنظمّ ثيمة المتناهي فكرنا”[xxxii]. وهنا تكمن أهمية باسكال، أي؛ في إرسائه لقيمة التدخل النضالية، بوصفها  مصدراً خالصاً لإنتاج الحقيقة. فالعالم بالنسبة إلى باسكال لا يقود إلى وجود الله بالضرورة، بل هو قرار من يقبل الرهان، وهو الذي يوجده[xxxiii].
يشرح باديو إعجابه بباسكال على النحو التالي: “أكثر ما أعجبني لدى باسكال هو سعيه في ظروف صعبة للمضي ضد التيار، ليس بالمعني الانفعالي، إنما بغية ابتكار أشكالٍ حديثة لقناعة قديمة بدلاً من اللحاق بركب العالم وتبني النزعة الشكيّة السهلة التي تضعها المراحل الانتقالية كافة طوع بنان النفوس الضعيفة جداً لتبقى متماسكة.”[xxxiv] وعليه؛ يرى باديو في باسكال “مناضلاً” من الطراز الأول، إنه من صحَّح مسار الفلسفة وأيقظها من  سباتها. وإلى جانب باسكال المدافع عن الدين – الأبولوجي -، يجد باديو باسكالاً آخر، باسكال الذي خطّ منهجاً كاملاً في التدخل والانخراط في العالم بعيداً عن النزعة التشكيكية أو الوثوقية الدغمائية. فباسكال أكد  ضرورة الرهان، لا ضرورة وجود الله. وهو ما يترجم بمصطلح باديو، ضرورة “التدخل” للمراهنة على الانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة.
-غولدمان قارئاً باسكال: الإله الخفي
يزداد الاهتمام بـ “رهان” باسكال في الفلسفة المعاصرة. ولا يتعلق الأمر باسم أو اثنين، وإنما بتيار فلسفي كامل. وفي مواجهة هذا الرهان،  نكون أمام خطاب فلسفي، ورؤية للعالم، الذي يقف فيه صاحب الرهان على مسافة متساوية من جميع أطرافه. فالرهان هو موقف من عالم أغلق نظرياً، ولا سبيل إلى تغييره استناداً إلى النظرية. إن الرهان موقف “عملي”، بالمعنى الكانطي للمصطلح. ولكن ماذا تعني العودة إلى رهان باسكال؟ هذا ما نريد الإجابة عنه.
إن ما يهمنا من العودة إلى قراءة غولدمان هو فكرة “الإله الغائب”، وتحليل العودة المعاصرة إلى هذه الفكرة عند باسكال. إذ تحمل هذه العودة في ثناياها التأكيد على ضرورة وجود فكرة بديلة عن فكرة الإله الميت. إن الأهمية المتزايدة التي تكتسبها فلسفة باسكال بين  فلسفات  المعاصرين، تؤكد ضرورة صوغ أطروحة “إنقاذ الله” التي سبق ذكرها في بداية مقالنا. إن الفكر التراجيدي الذي يبيّنه غولدمان في فلسفة باسكال وثيق الصلة بفكرة الإله الغائب (الخفي). والعودة إلى هذا الفكر، نفترض أنها تشير إلى ضرورة صوغ شكل جديد لعودة الإله، ولبعثه من جديد.
قامت قراءة باديو على أساس مفاده؛ أن باسكال يوجه رهانه إلى الملحد لحمله على “التدخل” بهدف تجديد النواة الحدثية للعقيدة المسيحية، ومن ورائها، وعبر الخطاب الجديد للرهان، بما يحمله من فلسفة  جديدة في “التدخل” التي تنطوي على رؤية جديدة للعالم ولموقع الإنسان فيه؛ أي تجديد الخطاب الفلسفي بأكمله. يمكن القول عن الملحد (المراهن) ما سيقوله ديريدا عن التفكيكي،  فهو في-العالم-خارج العالم، أمام-القانون-خارج-القانون[xxxv].
يذهب لوسيان غولدمان في كتابه الموسوم الإله  الخفي[xxxvi]،  إلى أبعد مما ذهب إليه باديو، إذ يرى أن فلسفة الرهان تقوم على فهم عميق للشرط الإنساني ككل، وأن الرهان موجه إلى كل إنسان، وأن أي فهم يختزله إلى مجرّد حيلة من طرف باسكال لمحاربة الملحدين على أرضهم، أو ذكاء خاص يريد به باسكال الدفاع عن موقفه، إنما يغفل “النقطة الأساسية لواحد من أكثر النصوص أهمية في تاريخ الفلسفة.”[xxxvii]
“أرى أن باسكال ابتدأ مساراً فكرياً يذهب إلى ما وراء التراث المسيحي وإنجازات العقلانية والتجريبية، وابتدع أخلاقاً جديدة ما زالت صالحة حتى اليوم. بالنسبة إلي، باسكال هو الرجل الحداثي الأول.”[xxxviii] هكذا عبر  غولدمان عن أهمية فلسفة باسكال. “الرجل الحداثي الأول”، لكن ليس بالمعنى الديكارتي للكلمة. فباسكال لم يكن رائداً للفلسفة العقلانية التي بلغت أقصى ذروتها في الجيل اللاحق على ديكارت بشكل مباشر، أي مع مالبرنش ولايبنتز وسبينوزا، ولاحقاً في ألمانيا، مع ليسنغ. وإنما بالمعنى الديالكتيكي؛ الذي يرفض الاعتراف باستقلالية الفكر المفهوماتي، وضمناً، رؤية رجل العلم كنموذج مثالي للإنسان. ويبدو أن باسكال لم يتجاوز – بالنسبة إلى غولدمان-  أفكار الفلاسفة العقلانيين فحسب: “باسكال، كان قد تجاوز أفكار الفلاسفة الألمان اللاحقين على كانط – هيغل وغوته وماركس – وهيأ لنظرة جديدة حول الإنسان.”[xxxix]
يهدف غولدمان في كتابه إلى تقديم فهم جديد لمسيرة باسكال الفلسفية انطلاقاً من منظور مادي وديالكتيكي، مستنداً بذلك إلى  فكرة أساسية، مفادها؛ “أن الوقائع التي تطرأ على المرء دائماً ما تتشكل داخل بنيات شمولية مهمة، والتي هي معاً وفي آن عملية ونظرية وانفعالية، وأنه يمكن دراسة هذه البنيات بطريقة علمية”[xl]. إحدى أهم هذه البنيات يسميها غولدمان “الرؤية التراجيدية”، وهي تسمح لنا، وفق ما يقول، بفهم جوهر ظواهر عدة؛ اللاهوتية والأيديولوجية والفلسفية والأدبية، والعلاقات بين هذه الظواهر، التي تبدو غير واضحة للوهلة الأ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

باسكال معاصرًا باديو وغولدمان: حول قيمة الرهان وعودة الله

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» قيمة أبل للكمبيوتر 623 مليار دولار ما يجعلها أعلى الشركات قيمة في التاريخ 2012-08-21
»  نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة- ألان باديو
» رهان باسكال
» الشعب السوري سينتصر و انتم ستخسرون الرهان
» الآن باديو.. مدْح الحبّ.. تمجيدٌ للجسد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: