** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 - الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حمادي
فريق العمـــــل *****
حمادي


عدد الرسائل : 1631

تاريخ التسجيل : 07/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

- الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/ Empty
13032016
مُساهمة- الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/

الفصل الأول

مقدمة في الأنتربولوجية 
المعرفية العربية التاريخية:

ليست الحضارة العربية قفزات في فراغ متقطع وليس علم الأناسة العربي، لصاقات لتطورٍ عشوائي يرتطم بجدران حضارات محيطية أحياناً، وبنفسه وتركيبته أحياناً أخرى، لينطوي على أحاديةٍ في الرؤية أو النمو... إنَّ الأناسة العربية " الأنتربولوجية" المعرفية، والحضارة العربية، كلُّ متكامل متواشج متصاعد، حلزوني متواصل، يستند على عمق الأرض والجغرافية، ويصعد بهامته إلى السماء. لقد كان إنساننا في هذه المنطقة ثمرة التعاضد بين جهوده التطورية وتفجير الطبيعة عن قدرة خلاّقة وقاسية، فصبَّ الاثنان ماءهما في فسحة المكان التي فتحت صدرها لقلق الانسان وهو يلتقط السنين تجترّ بعضها فَنَحَتَها على المكان الخالد، في قلب الكهوف وعلى ضفاف الأنهار. وعندما انتقل تحدي الزمن إلى عتبات الحضارات الجليلة، بدأ الإنسان ينقل قلقة ذاك، إلى جدران الزقوّرات، والأهرام وأعمدة المعابد في بعلبك وتدمر والكرنك.. كل ذلك في وحدة أناسية متكاملة مترابطة، لاتعروها سمة لفصام أو لانفصال أو لتصدع.
ولم يكن ذلك القلق معزولاً عن السمو الروحي، بل شكَّلا وجهين متداخلين لسيرورة الانسان الراقي، عندما حطَّ في مقدمة الإنسانية النمو التالي للديانة الأتونية التوحيدية في ارتقاءٍ صعب لأخناتون، كان من نتيجته تلك الرؤية الشفافة لما في الكون كله..
من ثم تصاعدت تلك الرؤية في المسيحية التي لم تكن في قوامها الأولى، وقبل التغريب بها إلاّ ارتقاء للأناسة المعرفية العربية كما قال ستاندال في " الحوليّات الإيطالية ": إن دين المسيح هو دين الفلاسفة العرب معاصريه" (1).
وبالضرورة الأكيدة، كان لابد للمشرق العربي أن يدافع عن ذلك البناء السباق والعظيم، ولامتلاكه للمعرفة الأولى والقدرة الخارقة أن يسمو بتلك الحضارات عبر مظاهر أكثر شفافية ومتانة فكان الإسلام المظهر الأناسي المعرفي التالي للعروبة، والذي، شكلَّ مع اللغة العربية تكويناً بنائياً أناسياً احتوى في صلب ارتقائه الأطر العامة لما سبقه من تكوينات ميثولوجية وثيولوجية ومظاهر توحيدية بحيثيّاتٍ أرقى.
لذلك لم تكن الرؤى الاستشراقية التي نظر إليها كتكوين مقدّس إلاَّ منظومة أيدلوجية هدفت بالضرورة إلى مسخ الشخصية العربية في وجهٍ صحراويٍّ جاف، خرج للتاريخ منذ ألف ونيفٍ من السنين فقط، وتشوَّهت سلسلة تاريخية ودفعته بعبثية مرعبة هادفة إلى خلخلة وحدة البنية الثقافية المعرفية العربية وتشويه جذروها التاريخية العميقة في تقسيم للشعب العربي لايستند إلى تأسيس علمي، وغير قابل للخضوع للبحث العلمي أصلاً.
ولقد بدأ ذلك بالتعبير عن منظومته الأيديولوجية في فكر شلوتسر عندما صاغ صفة " السامي" في مؤلفه المعروف والموسوم بـ" فهرس الأدب الشرقي والتوراتي" عام 1781. فقسم العرب إلى ساميين وحاميين، ووضع خطوطاً خاصة لدخول اليافثيين " الآريين" بطريقة أو أخرى إلى نسيج المنطقة ليخلخل بنيتها الاناسية الواحدة بهدف التأسيس اللاحق والسافر لعقد الانتماءات الثقافية " بل والعرقية" لشعوب " المنطقة العربية، وصولاً للتبرير الايدلوجي التالي في المشاريع السايكس بيكويه وزرع الكيان الصهيوني لاحقاً.
وهكذا استقبلنا وتقبلنا تاريخنا كما كتبه الآخرون، بدون أدنى شك بما قدمه لنا المستشرقون، حتى بعد المكتشفات الأركيولوجية التي تكثَّفت في القرن التاسع عشر وبشكل خاص في نهاية القرن العشرين، والتي لم تخضع حتى الآن لدراسة أكاديمية مقارنة تعيد إظهار الحقيقة كما هي، وتزيل ما تراكم عليها من غبار الاستشراق والزمن، وتعتيم الايديولوجية المركزية الأوربية، والتي قدمت لنا تاريخينا كما تشتهي هي، وليس كما هو في واقع الحال.
فقدَّم لنا أرنست رينان بأن الأشوريين كانوا بالتأكيد ساميين، أما الكلدانيون فمن المستحيل معرفة من هم ومن أين أتوا!!!! أما المصريون فيقدمهم أحباشاً أو أنصاف ساميين أو مهجّنين عن الحاميين أو الأفارقة البيض، ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن القبائل السامية/ بعد الاعتراف البدهي من وجهة نظرهم بصحة التسمية/ قد هاجرت إلى آسيا الغربية" ويقصدون الشرق العربي وكأن هذه المنطقة كانت خالية من الشعب العربي!!!!!
" وإنَّها لميزة يمتاز بها جميع هؤلاء الخبراء الذين لا يتفقون فيما بينهم، على شيء، إلا على أمر واحد- وياللغرابة- إنه هو التعبير " سامي" الذي يتفقوا أبداً على محتواه. إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي، متفق عليه. وأن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمَّنا بدلاً عن الساميين، الأبطال المختلقين من أصلٍ خيالي،... لو أننا تكلّمنا عن العرب، ذلكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين.. إن لغة واحدة مكتوبة ومتخاطب بها قد انتهت إلى فرض نفسها وتغطية هذا المجموع الكبير: إنها اللغة الآرامية " والإغريقية تابعتها" والملحقة بها.. ثم تطورت الآرامية منذئذٍ طبيعياً، ودون معارضة، إلى اللغة العربية التي وجدت نفسها منذ ذلك الحين وارثة الماضي المصري والكنعاني... والبابلي. هاهوذا المعيار الدقيق للثقافة العربية أمُّ الثقافة الهيلينستية والموحية بها والتي شكَّلت عقلها وقوانينها(2).
فما هي المعطيات الأناسية التي من الواجب مقاربتها بمنطقية وحيادية، تأسيساً علمياً دقيقاً لكشف التزييف الأيديولوجي الذي يركب صهوته الاستشراق، الذي كان من أهم مهماته زرع البنية التركيبية لثقافتنا كبديهة تقتضي بالضرورة تناول الأيديولوجيا اليهودية- الصهيونية بنصوصها التلفيقية كإحدى العلامات الملازمة لتاريخنا العربي؟
لذلك سنبدأ بحثنا في التاريخ الأناسي " الانتروبولوجي" للوطن العربي منذ عصر الباليوليث الأدنى وحتى فجر التاريخ مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. ثم سننطلق لبحث الوحدة اللغوية للبناء الأناسي العربي عبر قراءة مقارنة تأسيسية للهجات اللغة العربية التي كانت سائدة على كامل مساحة الوطن العربي. نعرِّجُ بعد ذلك على المفاصل المفقودة" أيديولوجياً" في التأصل التاريخي والأناسي للمظاهر الحضارية للوحدة المعرفية التاريخية العربية.
وبالضرورة لابد أن تدرس البنية الميثولوجية الواحدة في تطورها التاريخي منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الرسالة الإسلامية في تسلسل تاريخي ثيولوجي- ثقافي علمي.قاصدين بذلك كشف التأسيس الأناسي لوحدتنا التاريخية عبر وحدة الخيال والذاكرة الجمعيين العربية، ووحدة التاريخ الجغرافي، والجغرافية التاريخية، وبالتالي وحدة اللغة، والسيكولوجيا الجمعية، وصولاً للتأسيس التلقائي التالي للهوية القومية العربية الناجزة تاريخياً، بما يقدمه ذلك من ارتكاز متين لانجاز المشروع النهضوي العربي عبر طموحه للوصول إلى الدولة الوطنية العربية الواحدة على كامل التراب العربي.
لذلك قمنا بتقسيم التاريخ العربي إلى مجموعة مترابطة متواشجة من المراحل، يظهر فيها التاريخ اشتراطياً لأن عملية الفصل بين مرحلة وأخرى مستحيلة خصوصاً عندما نستند في قراءتنا على التأسيس المعرفي بمعناه الشمولي بما يملك من علاقة وطيدة بمفهوم التأسيس الأناسي الثقافي.
فاللغة لا يمكن أن تخلق للتو، في لحظة معينة، إنها منظومة سيرورية اجتماعية تاريخية ... كما أن البنى الحضارية متداخلة، لدرجة لا يمكن أن نفصل أو نميز في البناء الميتولوجي أو الحضاري أو غيره للبابليين عن الآشوريين أو عن الكنعانيين أو عن الليبيين أو عن اليمانيين أو الحبشيين أو المصريين... الخ كما أننا لانستطيع إيجاد تحديد معين لمفهوم المخيال الجمعي في مراحل السلالات الأولى ونفصله عما سبقه أو تلاه.مثله مثل الحالة الفينيقية/ الكنعانية/ التي لا يمكن دراسة منظومة الذاكرة الجمعية والميثولوجية فيها بمعزل عن البنية الأناسية العامة المعرفية والثقافية " لشقيقاتها العروبيات في زمن معين وواقع تاريخي وجغرافي معزول، فكيف بنا باللغة وبعلاقتها بالبنية الأناسية المعرفية العامة!!؟
وقبل أن يستعجل القارئ بحكمه على العمل، لابدَّ من المتابعة، لابهذا الجزء فقط، بل بما سيتلوه من دراسات متتابعة ومكمِّلة تشكل قراءة معرفية مقارنة حيادية لتاريخنا العربي. فالمتابع لهذا التاريخ يدرك عناصر التواصل والتداخل والتواشج المكونة لبنية واحدة غير منقطعة لابالمفهوم" أو بالقياس" الشاقولي، ولا بالقياس الأفقي. وأعني بالشاقولي البنية الهرمية الحلزونية الشاملة للأناسة العربية معرفياً وحضارياً وثقافياً، قياساً تناسبياً مع الحلزون الزمني بمفهوميه الفيزيائي، والاجتماعي. وأما الأفقي فلقد قصدت به الرافعة الجغرافية- التاريخية لامتداد، وسعة رقعة الانتشار العروبي- العربي. وهذا التكامل بين الأبعاد يجعل من المستحيل بمكان لأي باحث أو قارئٍ، ولما سيكتشفه من وحدة مترابطة العناصر، أن يجزئ هذه البنية إلاَّ عبر المنهج الاشتراطي. أي الذي يستطيع أن يحدّد من خلاله الفواصل المحددة بين نشوء المظهر الأكدي والبابلي والآشوري، وبين كلٍ منهم والأوغاريتي أو العبلاوي " الايبلاوي" أو المصري أو الليبي أو اليماني أو القرطاجوي أو غيرها، إلاّ عبر الاشتراط المحدد لتأريخية معينة. وهنا لا نلجأ عادة لقراءة التاريخ الذي يرسم بخطوط هندسية " أو حسابية" معينة بحدث ما، بل نستخدم القراءة التاريخية المعرفية التي تعني المقاربة الداخلية للبنائية المجتمعية" بارتكازاتها الأناسية " الانتربولوجية" المعرفية، والتي يتعذّر من خلالها تقسيم الحلزون التطوري الصاعد للبناء العروبي- العربي إلى مراحل متمفصلة بتأريخية اشتراطية. لكن، ونظراً لعوامل هامة سنذكرها لاحقاً، حافظت وبصيغة اشتراطية على بعض التسميات الكلاسيكية، ريثما يقتنع معنا القارئ بأهمية منهجها وحياديته في المقاربة.
ومن المهم التذكير بأهم العوامل التي تدفع تلك القراءة للوصول إلى الحقائق التاريخية، بحيث تبدو عناصر الفصل في جوانب منها، محَّددة بمعنى الافتراض لاأكثر:
1- التاريخية المقارنة، والتي تعني ضرورة اتباع منهج المقارنة بين بنى تاريخية متوازية أو متماثلة أو متشابهة أو متطابقة، للدلالة على الأوليِّ، والتالي، وعلى المصدر الخلاق للمعرفة كنتاج أولي، وعلى التبني التمثلي، أو المنمذج كنتاج الأولي، وهذا لا يمكن أن يتم إن لم نربطه بالبناء المعرفي، بسبب ضرورة وضعه في سياقه التاريخي الطبيعي، بما يعنيه ذلك من رسم الخارطة المعرفية لاحداثيات تطور الفكر أو اللغة أو المظهر الحضاري.. ولا أقصد بالتاريخية المقارنة، المعنى الحرفي، بل، المعنى الدلالي، لعلاقته المباشرة بعلم الأناسة المعرفي " الأنتربولوجيا المعرفية" كحالة من المنظومة، التي نتناول فيها وعبر علم الاناسة الثقافي العروبي- العربي دراسة التطور التاريخي المعرفي للغة العربية البدئية " الأولية" ومن ثم لآلية تطور لهجاتها وعلاقة ذلك بالبنية الثقافية العامة، وهذا ما يحمل في جوانبه مجالين آخرين، هما الاثنولوجيا التاريخية المعرفية للشعب العربي، والتي نعني بها الدراسة التحليلية المقارنة للكم والنوع الاثنوغرافي بهدف الوصول إلى التصورات النظرية والتطبيقية والتعميمات المختلفة بما يخص النظم الاجتماعية العروبية من حيث وصولها وتطورها النوعي، والمجال الآخر هو الاثنوغرافيا المعرفية والتي تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والبنى الميتولوجية " بمظاهر انتشارها" والعادات والقيم والتقاليد والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية وعلاقتها بالتكوين الثقافي المعرفي العروبي- العربي.
وانطلاقاً من تعريف مارغريت ميد M.Mead 1890-1979" للانتروبولوجيا" نحن نصف الخصائص الانسانية، البيولوجية، والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية، كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة. كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية والتكنولوجيا، ونعنى أيضاً ببحث الإدراك العقلي للإنسان، وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، نحن نسعى لربط وتفسير نتائج الدراسات في إطار نظريات التطور أو مفهوم الوحدة النفسية.." (3) يمكننا أن نؤسس على ذلك تصوّرنا المعرفي للخصائص التاريخية" القومية" / العروبية- كمرحلة أولى- والعربية، كمرحلة ثانية/ والمرتبطة بالإحداثيات المعرفية " الذاكرة الجمعية والمخيال الاجتماعي، والسيكيولوجيا الجمعية، والإدراك، والاختزان، والاستقبال والمعالجة والتشفير.).الخاصة واللغة، وتطور تلك الخصائص عبر المراحل التاريخية ببعديها التأريخي والاجتماعي، وفي الانتشار الجغرافي البيئي" من ثم تحليل تلك السمات بعلاقاتها المؤسسة، كما قلنا، بأنساق لها إحداثيات الوقائع المعرفية الاجتماعية. وهذا يرتبط بدوره بمفهوم المنظومة الاجتماعية العروبية- العربية، وكيفية الانطلاق لتحديد التالي من انتقال الفكر من حالة التراكم الموضوعي- الوصفي- إلى التجريد فالفلسفة، وهذا أعطى منظومة معتقدية ميثولوجية متطورة ذات سمات خاصة ومميزة ترتبط بالبناء المعرفي الأناسي الذي نحلله ونفككه من خلال الهرمية البنائية الخاصة به، وعلاقتها باللغة.. وهذا لا يعني أن علم الاناسة " الانتروبولوجيا" وكما عرفه الدكتور شاكر سليم في قاموس الانتروبولوجيا " إن الانتروبولوجيا هي علم دراسة الانسان طبيعياً، واجتماعياً وحضارياً" (4) يفسر الاستناد الذي اتبعناه في دراستنا، لأن هذه القراءة تعميمية، ونحن نحدد قراءتنا بالتخصصية، بمفهوم تطور الأناسة المعرفية العربية، لنبتعد، عن مفهوم التطور العرقي، البعيد تماماً عن الأبعاد الإنسانية لقراءة تطور الجماعات البشرية بما حملت أثناء سيرورتها، من تأثر وتأثير وتداخل وتمازج وتفاعل ومعالجة مع جماعات قريبة وبعيدة خصوصاً ما يعنيه ذلك من بنية تشريحية ومورفولوجية لا تمتُّ للبحث الدقيق الموضوعي بصلة أساسية إلا بما يخدم البناء المعرفي العام في إحداثياته الزمانية.
لذلك، نؤكد أن القراءة التاريخية المعرفية في محور الأناسة المعرفية يعني دراسة الظاهرة الثقافية بآلية تطورها الإنساني بخصائصها القومية. وهذا يتعارض مع الاتجاه البنائي الوظيفي الذي يغفل الجانب الديناميكي التطوري. في حين ندرس معرفياً منظومة إدراك الجماعة البشرية وأسلوبه، للأشياء والمبادئ وما يكمن وراء هذا التفكير من منظومات معرفية متداخلة تخلق هوية الجماعة التي تعرف من خلالها وتتعامل مع العالم المحيط بواسطة منهجها الخاص. لذلك كانت رؤيتنا للمفهوم التطوري من زمن لآخر" اجتماعياً " وما يفرضه ذلك من قراءة معرفية خاصة لعلاقة اللغة بالثقافة. وما تعنيه الأولى من منظومة مفتوحة، لأنها تعتمد على آليات استقبال الواقع في المنظومة الفكرية، وعلاقة هذه المنظومة باللغة ذاتها.
لقد أجرى ليفي ستروس دراسات على أساس الافتراض القائل بأن لدى العقل الإنساني طريقة تسمح له بتصنيف الأشياء في ألفاظ أو معانٍ متقابلة، الأمر الذي جعل الإنسان يميز بين نفسه وغيره، أو بين الحيوان والذات الإنسانية، وبين الطبيعة والثقافة. هذه القدرة على التمييز تمثل في نظر ليفي ستروس جوهر الاختلاف بين الإنسان والحيوان، كما أنها سهلت قيام الإنسان بالتفاهم والتخاطب عن طريق استخدام مجموعة من التجريدات والرموز، التي ساهمت في بلورة تشكيل نمط الثقافة السائدة وتمييزها عن غيرها من الثقافات الإنسانية. وأياً كان طابع أو طبيعة الثقافة، فإن اللغة تمثل العمود الفقري فيها. فالمجتمع- وبالتالي الثقافة- على حد تعبير رومان ياكوبسون مؤلف كتاب علم اللغة- ما هو إلاَّ " شبكة محكمة جداً من التفاهم الجزئي أو الكلي بين أعضاء الجماعات" واللغة بطبيعة الحال تمثل الأداة الأساسية بيد الإنسان لتحقيق أشكال الاتصال والإعلام والتفاهم كافة. ولقد حدد ليفي ستروس ثلاثة أنواع من أنظمة الاتصال بين الأفراد والجماعات وهي: تواصل الوسائل " اللغة" وتواصل المنافع " الاقتصاد" والتواصل الجنسي" الزواج" (5) لكن تلك الدراسات وما بني عليها من مدارس أخرى للقراءات الأنترولوجية، لم تعنِ الجوانب الأخرى المتعددة التي تحملها المنظومة الثقافية في سيرورتها. وإن كان قد أشار إلى ثلاثة عناصر هامة" اللغة، الاقتصاد، القرابة" رغم ارتباطها أيضاً فيما بينها، فاللغة وإن كانت ذات علاقة هامة، بالميتولوجيا، والمعتقدات، والبناء الديني مثلاً، وتحمل في داخل تكوينها الكثيرَ المعبِّرَ عن ذلك، إلاَّ أن لهذه العناصر الأخيرة بنى تبدو علاقة اللغة فيها محدودة بشكل أو بآخر. وللمخيال الاجتماعي أيضاً كمنظومة حجمية جماعية لتصورات الجماعات البشرية عن سيرورية الأحداث وتخيلها وتحميلها الجمالي، خصائص معرفية رغم ارتباطها الوثيق بآلية التواصل اللغوي، إلا أنها تحمل جوانب تخيلية خاصة، تتحدَّد فيها علاقة اللغة ومثل ذلك أيضاً الذاكرة الجمعية في آلية الاختزان والمعالجة والتشفير والاستحضار والاكتساب والتأصيل والتحديث. وأيضاً تبدو علاقة السيكيولوجيا الجمعية بآليات الحراك الجماعي، تجاه الظواهر الاجتماعية والبيئية والطبيعية والقلق والخوف والولادة والموت والحرب.. ذات ملامح خاصة أبعد من قدرة اللغة على تحميلها. لذلك لا تحمل مقاربتنا في هذا البحث جوانب طاغية معرفياً وأخرى مقهورة بمقدار ما تحمل من تداخل هذه المكونات التي تحدثنا عنها أعلاه جوانب الترابط والتداخل في المنظومة الأناسية المعرفية العربية على مدى تطورها التاريخي. وإن كنا قد خصصنا فصلاً موسعاً وهاماً في هذا الكتاب لدراسة البنية اللغوية الأناسية المعرفية العربية وذلك لما تحمله هذه البنية من تقاطعات هامة ورئيسية بين كل العناصر المكونة للمنظومة الانتروبولوجية التطورية( التاريخ الأناسي، الذاكرة الجمعية، المخيال الاجتماعي، السيكيولوجيا الجمعية، الميتولوجيا والمعتقدات، البنية الاقتصادية والنمطية، وتطور وسائل الإنتاج الجماعي والفردي..) حملت آلية التعبير الخاصة بها عبر أنساق لغوية ذات دلالات هامة.
وانطلاقاً من تلك المقاربة حددنا المراحل التاريخية المعرفية " اشتراطياً" لتطور اللغة العربية:
1- اللغة العروبية البدئية، وهي شفاهية، تركت بعض رموزها وعناصرها في المراحل الأخيرة من أزمنة ما قبل التاريخ. وهي الأمُّ للهجات الكتابية العروبية التي ظهرت لاحقاً.
2- اللهجات العروبية، وهي كتابية، ويمكن تحديدها تأريخياً في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد مع ظهور المسمارية والهيروغليفية، وهي لهجات فرعية بقيت متمحورة حول لغةٍ أمٍّ- أساس وتمتد حتى النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
3- اللغة العربية ويبدأ تاريخها مع ظهور الأبجدية العربية الفينيقية" أبجد، هوز، حطي، كلمن سعفص، قرشت" والسنياوية " نسبة إلى سيناء" والمسند.
4- العربية المعاصرة: والتي تمتد بتاريخها منذ الرسالة المحمدية العظيمة وحتى الآن.
أما ما يخض العروبيّ، والعربيَّ، فلنا في ذلك وجهة نظر محددة، نتمنى من القارئ أن يعيرنا شيئاً من صبره لمواصلة الحوار:
فالعروبة: اسم يُرادُ به خصائص الجنس العربي ومزاياه " المعجم الوسيط" وهذا يعني منظومة البناء المعرفي الأناسي التي تحمل في مكوناتها جملة المواصفات المتمحورة حول أساس لغوي واحد وبنية ميتولوجية ومعتقدية واحدة، وجغرافية تاريخية واحدة، وتاريخ جغرافي واحد، وسيكيولوجيا جمعية واحدة، وتأسيس حضاري واحد، وتمحور تقني واحد، ومرتكزات منظومة بدورها عقلية واحدة.. تتعدد مظاهر حركيتها وتتنوع، لكنها تبقى متمحورة حول بنية مركزية واحدة متطورة بدورها تماماً كما تتعدد مظاهر الخيال الاجتماعي الواحد أو أشكال الذاكرة الجمعية الواحدة " وسنأتي على كل واحدة من تلك، بالتفصيل في حينه".ومنها" العروبي"
أما" العربي" : فهو من يحمل سمات المبادئ والمعاهد وجملة الأنساق الناظمة للخصائص المميزة للجنس العربي. أي يختلف عن " العروبي" بتوفر العناصر الناظمة للخصائص، التي تكون متوفرة في التاريخ القبلي ولكنها لم تصل إلى درجة التعقيد للمنظومة التي تصوغ السيرورة التالية لتطوّر عناصرها.
فمثلاً كان هناك في المرحلة اللغوية الثانية مجموعة لهجات" عروبية" تتمتع بنفس الخصائص والمواصفات وتتقاطع فيما بينها بمعظم مفرداتها، لكنها لم تكن قد انتقلت بعد إلى مرحلة التعقيد في أبجديات متطورة. فاللهجات تلك كانت تتمحور حول خصائص واسمة للغة العروبية، أينما كان ذلك التموضع الجغرافي لتلك اللهجات. فالخصائص التي تتمتع بها اللهجة الليبية " الجبالية" والحبشية، والمسندية والأكدية هي واحدة لكنها لم تحمل اشتراط التعقيد في أبجدية ناظمة لحركيتها. وهذا ما فرضه التطور التاريخي التالي. لكن ذلك بقي في كل مراحل تطوره( كما سيمر معنا بالتفصيل وبالأمثلة التطبيقية في الفصول الموافقة) يحمل الصفات التي أصبحت واسمة للغة العربية فيما بعد. من هنا كان التعريف المعرفي، بأنه فعل سيروري. أي لا يمكن أن نسمي شيئاً قبل وجوده باحداثيات ومواصفات معينة. فهل كان من الواجب على العرب أن يطلقوا على أنفسهم هذه التسمية منذ عشرات السنين ثم يصوغون تطورهم بما يتناسب مع هذه التسمية. والتاريخ المعرفي لايعنى بالواقع البعدي إلاَّ عبر قراءته السيرورية.
أيضاً يمكن مناقشة البنية التطورية الشاقولية في الحلزون الاجتماعي، بنفس المنهج. فالمسمارية والهيروغليفية سُبقت بنظام كلامي تطوَّر عبر آلاف السنين، ولم تخترع الجماعة البشرية العروبية تلك الكتابات قبل أن تعرف اللغة الشفاهية. فأتت لتحدد مواصفات معينة تواصلية للغةٍ ما سابقةٍ عليها. لكن اختراع الأبجدية الذي أتى أيضاً على نفس الأرضية الناظمة، حدَّد المسار التالي وبشكل مبادئ ومعاهد وقواعد ونظم، وأعطى تلك الميزات تسمياتها. وعندما تحدثنا عن الأبجدية باعتبارها الفاصل بين العروبية، فلأن دراستنا المقارنة للأبجديات الثلاث خرجت بنتيجة مفادها ( أن اللغة المحورية لتلك اللهجات هي واحدة/ كما سيلاحظ القارئ في الفصل المخصص لذلك/). وهو مارُسِّخ أكثر مع ظهور أبجدية اللغة العربية المعاصرة التي حملها القرآن الكريم إلى أقاليم الانتشار العروبي السابق والعربي اللاحق. وهذا يفسِّره عدم انتشار اللغة العربية المعاصرة ( التي كانت لغة الدولة الإسلامية في كيانها السياسي من الصين شرقاً وحتى جبال الألب غرباً) خارج الانتشار الجغرافي التاريخي للجماعات البشرية العروبية في رقعة الوطن العربي بامتداده المعاصر.
" أو بالحري أن اللغة العربية قد أعطت، دون انقطاع منذ أصولها النيوليتيكية والرافدية حتى يومنا هذا وفي جميع أشكالها وصورها، دون استثناء.. أعطت تديناً صاغ منه مجتمعنا، جميع التأملات والفلسفات، والجماليات، والعلوم الخفية( الخاصة) أو العامة. فلقد كان كاهن بعل يتكلم العربية، و بها كذلك يتعبّد التقيُّ المؤمن بـ" إيزيس" أو موسى المصري، وبالعربية يتكلم من ثم عيسى المسيح عندما يتحادث مع قيافا أو مع شعب فلسطين،ولعلها بديهة أن نسجل هنا أن محمداً قد بشَّر بالعربية، وبها نشر رسالته. وأن الخط المستقيم لثقافتنا لم يكن منحرفاً يوماً ما أدنى انحراف. وإنها في الحقيقة، لعبة أطفال بالنسبة لعالم لغة، أن يجد في أصول اللهجات المصرية والكنعانية والأناضولية أو الآشورية البابلية العناصر الأساسية للغة العربية، فلقد نقلت الكلمة أحياناً بكليتها خلال العصور بحيث تلخصها في كلمة مقصورة مدهشة. فإذا ما أردتم أمثلة قدمنا بعضها فيما يلي/ سنعار في النصوص السومرية والآرامية والرافدية نسميها في العربية المعاصرة شنعار. والإله" شمش" يطابق في العربية الحديثة شمس. و" بعل" يعني بالعربية " المعلم والسيد"، ورب " وهي كلمة من مابين النهرين" تعني " أب " ورب البيت" هو سيد المنزل"، ويُسمى إله الصاعقة البابلي" براك" وعربية القرن العشرين تسميه " برقا" الإله تموز أعطى اسمه لشهر تموز العربي. الإله السوري الفلسطيني للجحيم يسمى" موت" والتعبير نفسه في العربية يعني الموت. العيد الطقسي في لغة ما بين النهرين" هاج" وهي" الحج" بالعربية، الفريضة المعروفة. أما سبت، فمرادف مباشر لكلمة " سباتو " البابلية، وهي تحدد عيد القمر عندما يصير بدراً (6). وهناك آلاف الأمثلة " سترد في حينها". والرأي السابق ليس لباحث عربي، إنه لصاحب مدينة إيزيس- التاريخ الحقيقي للعرب- /بييروسي، والذي يتابع قائلاً:" وإذا كنِّا عازمين على ألا نستعير شيئاً من أحلامنا، فيجب علينا عندئذٍ أن نعرّف العروبة كثقافة الشرق الوحيدة" (7) والتي امتدت عبر مساحة جغرافية ذات تاريخية خاصة ميزتها عبر آلاف السنين" وكانت شعوبها، المصرية والكنعانية والأناضولية والسورية والبابلية تنتمي للأسرة العربية نفسها"(8) فهذه الأرض الشرقية قد عاشت من خلال إيقاعٍ وحيد النغمة لخمس امبراطوريات: مصرية وبابلية وبيزنطية وفارسية وإسلامية... بحيث أنه منذ حكم أول فرعون في الألف الخامس قبل الميلاد وحتى سقوط آخر خلافة، مروراً بالاسكندر.. كان الأمر استمراراً لا انقطاع فيه قد تركّز في الشرق، استمراراً للقوى، استمراراً للفكر، استمراراً للاقتصاد(9)" و أننا عندما نؤكد من خلال نظرة شاملة، أن الشرق يتعين من خلال ثقافة عربية في مساحة عربية فإننا لا نخترع شيئاً، إننا لانفعل شيئاً جديداً سوى جمع وإحكام العناصر الجغرافية والثقافية الموطِّدة الواحد للأخر"(10).
ومن خلال الكلمات القليلة السابقة نكتشف مباشرةً العلاقة الحية بين الميثولوجيا والمعتقدات، والدين والمثيولوجيا، فاللغة ليست أدوات تواصل، وتفكير فقط، إنها الشكل المتحرك من الفكر في " الفضاء" الاجتماعي. إنها النموذج الأرقى" الحركي" لمنظومة الفكر. وهذا ما نجد نموذجه في كل أركان" الدولة العروبية في الشرق. تلك الدولة التي ما عرفت صيغة الدولة بالمفهوم السياسي قبل الرسالة الإسلامية، ولكنها كانت قائمة على الأرض، في الواقع وإن عرفت بعض التكوينات السياسية الضخمة التي شملت مناطق واسعة من الوطن العربي وخصوصاً بين وادي النيل وبلاد الرافدين شاملة البلاد السورية ما بينهما،" لأننا نلاحظ دون أن ندخل في التفاصيل أو نضيع في ضباب سمير أميس الأسطوري أو فينوس، إلى أي حدٍّ كان تاريخا مصر وما بين النهرين متطابقين، وإلى أي درجة تكون طيبة وبابل قطبي عالم ملتحم(11)" واحد مُؤسَّس في عمق التاريخ ويشكِّل وحدة متوازنة واحدة. فلقد أعادت الرسالة الاسلامية الشرق العربي إلى نفسه، إلى ذاته أعادت الشرق بامتداده الجغرافي من بحر الظلمات " المحيط الأطلسي" إلى الخليج العربي" البحر الأسفل" ومن شمال هضبة الأناضول إلى بحر العرب وعمق الصحراء العربية في لغة عربية واحدة، حملت حداثتها مع الاسلام لأن القرآن حمل الكمال الجمالي والصوتي والدلالي والقواعدي والديني للغة شعب مصري- رافدي قديمة محكية(12). فإذا ما كانت سياسة الاسلام قد مركزت الدولة بمفهومها السياسي فإنها لم توحد (القوميات) لأن القومية الوحيدة التي كانت منتشرة في رقعة الوطن العربي في حينه، هي العروبة، انتشاراً جغرافياً وتاريخياً مثله وحدة البناء المعرفي الفرعوني والبابلي والكنعاني واليماني والفينيقي.. الخ.
إن الاسلام وقد خرج من الصحراء لم يعد إلى الصحراء، بل توجَّه إلى الجماهير الكبيرة في لغتها وعقليتها، وفي مدنها البحرية والنهرية، لأن الدين الموحى إلى النبي كان متلائماً مع فهم تلك الجماهير، ذلك أنّه ليس بدعة ولا ثورة، إنّه يكمّل بصورة عالية بسيطة التراثات العروبية السابقة،وإن عقليات الشرق العربي المركبة المتنوعة ظاهرياً، قد كانت واحدة في جوهرها(13)، الذي يلخصها في إيمان واحد حول وحدانية الله. فالقرآن يجمع ولا يفرّق، ويقرر ذلك ولا يناقشه، لأنه موجود على ساحة الواقع الموضوعي" إنه يقرر الخضوع لله الخالد الأزلي- الحاضر في الماضي كما هو في المستقبل، الواحد الثابت الدائم غير المخلوق، الموجود في كل مكان من الكون. وليس هذا بالتأكيد مفهوماً مولوداً في صدىً، في زاوية صحراء، ولكن من زبدة تأمل المخلوقات الكنعاني، والبعث المصري أو المسيحي، والأمل في رؤية مستقبلية، فالإسلام لم يفاجئ أحداً أبداً من شعوب الشرق، بل أنار من حولها، ما هو متغاير ومتمايز. ولم يكن هناك حاجة لسيف ولا لاضطهاد من أجل أن تعتنق هذه الشعوب دين الإسلام. لقد اقتادهم إلى الإسلام الميل إلى الإيمان المتوارث عن الأجداد. إن الإسلام لم يكن بحاجة إلى احتلال الشرق والمتوسط عسكرياً، حيث كانوا في وطنهم منذ أماد بعيدة" (14) فلتأتهم الأوامر من ممفيس أو صور أو بابل أو آشور أو دمشق أو بغداد أو القيروان أو مكة، لقد كانوا يعبّرون عمّا في نفوسهم باللغة نفسها، ويعبدون الآلهة نفسها، ويحكمهم موظفون من المقاطعات نفسها" (15).
وقد يقودنا الحوار حول هذه النقطة إلى اعتبار ظهور الديانة الأتونية" ديانة أخناتون" التوحيدية حلقة نوعية هامة في التطور المعتقدي العربي، مما يعني إيجاد التطابق الهام بين ظهور الأبجديات العروبية" الأوغاريتية والمسندية والسيناوية" وظهور الأتونية كديانة توحيدية، وهذا ما يعني الإعلان عن الانتقال من العروبي ليس فقط على المستوى اللغوي كما تحدثنا أعلاه، بل على المستوى المعتقدي/ المعرفي / وهنا، لابد من الإشارة إلى أهمية التماثل بين البنية المعتقدية والانتشار الجغرافي التاريخي. هذا من جانب. أما الجانب الآخر، فإن ظهور المسيحية لاحقاً ضمن المسار التطوري للبنية المعرفية العربية كان أهم من سابقتها، لكن التغريب الذي حصل لاحقاً بالمسيحية بعيداً عن انتشارها وجذورها العربية غطي في جانبٍ هام بما فعلته السلطات السياسية اللاحقة حتى ظهور الإسلام، ومعظمها كان رومانياً أو بيزنطياً. لم يوجد حلقات الترابط المعروفة بين البنية المعتقدية المعرفية والتكوين التاريخي الجغرافي بشكل عام، بما ينعكس كما لاحظنا لاحقاً على بنية التكوين الشمولي العروبي بعد ظهور الإسلام،" فعندما صرخ يسوع المسيح على الصليب صرخته الكبرى": الهي، إلهي، لماذا شبقتني" فإنما بالعربية كان يصرخ، وكل عربيّ يفهم معنى هذه الصرخة"(16)، كما أن رؤيا القديس يوحنا الانجيلي، والتي هي رسالة وحي في نهاية القرن الأول، وجهت إلى سبع كنائس عربية في آسيا، وهي نفسها بالذات التي كانت تظل عقائد إيزيس وبعل(17).
لكننا، وإن كنا قد خصصنا جزءاً هاماً لدراسة وحدة الميثولوجيا والبنية المعتقدية بمرحلتيها العروبية والعربية، إلا أننا ولإيضاح وجهة نظرنا عبرنا على بعض المفاصل ذات العلاقة بالتأسيس التاريخي المعرفي لقراءتنا" فإن نفتش على طريق جدلي يقود إلى تفسير المسيحية باستناداتها على الديانة المصرية التوحيدية، فذاك أمر مشروع، فالأناجيل تقدم لنا فرصة مثالية مع رحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثم أليس هناك دليل الصليب ذي العروة، إشارة الحياة التي يتكرر فيها الموضوع على امتداد قبور وادي الملوك؟ أليس هنا الصليب الكلداني الذي استعادته مصر أيضاً، والذي يمثل صليباً محاطاً بدائرة رمزاً لنصر الآفاق الأربعة وكمالها والتي تمسك خطاً مقوساً سماوياً؟ (18) والمسيحية والاسلام لم يأخذا طريق عاصمة بركليس، لكنهما أخذا طريق دمشق والمدينة وبيت المقدس(19).
لذلك كان لابد من العبور في هذه المقدمة على نقاط هامة توضح مفهوم المخيال الاجتماعي والذاكرة الجمعية وعلاقتهما بالتاريخ الجغرافي/ والمعرفي/ العروبي وعناصر ارتسامهما وتطورهما الأولي واللاحق- فحين قراءة هذه المعاني لابدَّ أن نتذكر علاقة الثالوث المسيحي بالثالوث الفرعوني، ولابدَّ أن نتذكر أن مفهوم" البعث" هو منظومة عربية مشرقية، وبأن عقلية التصوف العربية المعاصرة تعود إلى جلجاش وبأن الأعمال الإثنا عشر التي أتمها البطل الطيبي والتي تطابق الاثني عشر قسماً لفلك البروج البابلي هذا من مكونات المنظومة المعرفية العربية...
لذلك، سيكون لدينا الكثير مما نتذكره، وتطلب منّا متابعته.. لذلك قمنا ببحثنا اللاحق بتقسيم الميثولوجيا العربية إلى المراحل التالية:
1- الميثولوجيا العروبية البدئية، وتشكل المراحل المتأخرة من عصر الباليوليت والميزوليت وتتضمن المرحلة النباتية والطوطمية وتتقابل مع منظومة الفكر الأولية في خلق التصورات الموضوعية الواقعية واندغام الحلم بالواقع...
2- الميثولوجيا العربية الفلسفية الأولى- وفيها بدأ الإنسان العروبى يجيب عن أسئلة الحياة الأولى، وآلية علاقته بالطبيعة وبالجماعة البشرية وآلية الإنتاج الاجتماعي، وحلَّ إشكاليات رؤيته للزمان والمكان والخلق والموت والحياة والبعث والفرح والحزن. وانطلق بمنظومته ليجيب عن أسئلة السماء والأرض، وارتفع بمكانه عبر الزقورات والأهرام وغيرها، لأنه لا يستطيع التأثير بفعل السماء فبدأ محاولاً الارتقاء بجسده نحو السماء، فعندما اكتشف عجزه، بدأ بالتفكير التجريدي الأولي وطوره لاحقاً عبر منظومة ميثولوجية تطورت بانتظام.
3- الديانات التوحيدية العروبية الأولى وتمثلها الديانة الأتونية والمسيحية والصابئة والأحناف
4- الإسلام، وقد أعطيناه مجموعته المستقلة لأنه كان الشكل الأرقى بمفاهيم الإجابة عن التطور التاريخي لعلاقة الفكر العربي بأسئلة الحياة والمجتمع والموت والحياة.. الخ.
وهكذا نلاحظ أن التاريخ العربي يشكل ببنائه الشاقولي تراكماً كميا متواصلاً صاعداً مع ارتقاءات نوعية هامة.
فعلى الجانب اللغوي قدّمنا تصنيفنا الخاص بذلك، وعلى الجانب المعتقدي أيضاً، ويمكننا من الناحية الحقوقية اعتبار شريعة حمورابي صعوداً نوعياً خاصاً، عندما نحاول دراسة الفكر العروبي من جانب تطوره القانوني باعتباره قفزة نوعية استندت على تراكمات كمية هامة تاريخياً وذلك ضمن السياق التالي:
أ- المنظومة الحقوقية العروبية البدئية حددَّت علاقة الإنسان بذاته وبمن حوله في سيرورة التطور المجتمعي، كما حدَّدت علاقته بالهرمية الميثولوجية الملازمة لآليات الملكية والتوزيع وغيرها/( المشاعية العروبية البدئية).
ب- المنظومة الحقوقية العروبية الاجتماعية، وظهرت مع شريعة حمورابي بتنظيم علاقات مجتمعية معقدة." فلقد شكلت قوانين حمورابي ملك بابل الذي حكم ما بين 1792- 1750 ق.م أول مجموعة شاملة من النصوص القانونية التي وصلتنا من الشرق العربي، لكنها ليست أقدم قوانين باقية. إذ من المعروف أنه حتى في الفترة التي سبقت أيام حمورابي، استن ملوك عديدون من الملوك الرافديين الذين حكموا المدينة " الدولة " قوانين مماثلة. وكمثال على ذلك ما تبقى من قوانين عهد أوركاجينا في لغش " لغش تللو" عام 2360 ق.م والامبراطور سرغون الأكدي 2300 ق.م وأورنامو في مدينة أور/ 2100/ق.م بالإضافة إلى قوانين لبث عشتار ملك إي سين عام 1930ق.م والتي كانت نوعاً ما أكثر شمولية والتي وصلنا منها ثمان وثلاثون قانوناً، ومجموعة مدينة إشنونا التي تحتوي ستين قانوناً (20)، ومجموعة قوانين إيبلا " تل مرديخ" وغيرها/ (المشاعية العروبية المقوننة).
إنّ شريعة حمورابي " تشكل بالإضافة إلى كونها منظومة حقوقية قانونية شاملة، مظهراً آخر من مظاهر الحكمة العروبية بمظهرها البابلي لأنها تنطلق بقيمها المعنوية من عقيدة عامة في سلطة المعرفة الإنسانية " (21) والتي تجلت حقوقياً بتلك الشرائع والقوانين.
"128" لو اتخذ رجل امرأة ولم يعقد عليها، هي ليست زوجه.
"138" لو رغب إنسان في طلاق زوجته الأولى التي لم تحمل منه، يعطيها مالاً بقيمة هدية زواجها ويرد لها المهر الذي أحضرته معها من بيت أبيها ويطلقها.
"186" لو تبنّى رجل طفلاً ثم أصر الولد بعد ذلك أن يبحث عن والديه الحقيقيين، يعود الطفل إلى والده.
"14" لو اختطف رجل ابناً رضيعاً لرجلٍ حر يقتل.
"21" لو نقب رجلٌ " بقصد السرقة" يُقتل، يشنق أمام النقب الذي نقبه.
"265" لو غيَّر راعٍ- أؤتمن لرعي قطيعٍ من الأبقار والأغنام، علامة القطيع خبثاً ثم باعه يُدان، وعليه تعويض المالك عشرة أضعاف ما سرق غنماً كان أم بقراً.
" 33" لو أن ضابط تجنيد أو مساعداً في الجيش ساق رجالاً معفيين من الخدمة الإلزامية، أو قبل وساق بديلاً مستأجراً في مهمة لصالح الملك، يُقتل الضابط أو المساعد.
"1" إذا اتّهم رجلٌ آخر بجريمة قتل ثم لم يثبت ذلك" ضده" يُحكم على المتهم بالموت.
"45" لو أجَّر سيد حقله لمستأجر واستلم أجرة الحقل ثم أغرق آداد حقله أو دمره طوفان تكون الخسارة خسارة المستأجر فقط.
"48/M" لو أن رجلاً اقترض قرضاً ولم يكن ما يردّه فضة بل كان عنده حب، يأخذ التاجر المقرض حباً فائدة" بنسبة تتفق ومراسيم الملك". لكن لو رفع التاجر فائدته إلى أكثر من" 100" سيل من الحبوب على كل جور" أو" إلى ما يزيد عن1/6 الوحدة النقدية وست قمحات وطالب بها ويغرّم بكل ما استرده "فوق القرض".
"48/ 4" لو أعطى رجلٌ آخر فضة شراكة في تجارة، عليهما أن يقسما الأرباح أو الخسائر بينهما بشكل متناسب وأمام إله.
55- لو تقاعس " تكاسل" رجلٌ أثناء شق ترعة للري " في حقله" بحيث ترك المياه تتلف محصول حقل مجاور لحقله، يزن لجاره حباً بمقدار ما كان في أرض جاره من حب.
129- لو ضُبطت زوجة رجل تضاجع رجلاً آخر، يُربط الاثنان ويُلقيان في النهر، أمّا إن رغب زوج المرأة مسامحة زوجته والعفو عنها، فللملك الحق في العفو عن مواطنه الآخر.
136- إن دخلت زوجة رجل، هرب من مدينته وغادرها، بيت رجل آخر" بعد هروب الزوج" لا تعود إلى زوجها الهارب إن عاد ورغب في استرداد زوجته، لأنهّ حقر مدينته وهجرها.
153- لو تسببت امرأة في مقتل زوجها بسبب رجل آخر توضع على الخارق.
168- لو قرر رجل أن يحرم ابنه من الإرث فقال للقضاة" أرغب في حرمان ابني" يبحث القضاة عن ماضي الابن، فإن وجدوا أنه لم يجترح ذنباً جسيماً يبيح حرمانه لا يحق للأب أن يحرمه.
197- لو كسر رجل عظم رجل آخر يكسرون عظماً له.
200- لو حطّم رجلٌ سنَّ رجل آخر من طبقته- يحطمون سنّه" _22).
إن القراءة للمختارات العشوائية السابقة تقودنا إلى وضع تصور أوليّ لواقع البنية" المدنية " المعيشة مع أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، ليس فقط في بلاد الرافدين، بل وفي البلاد الشامية بداخلها وبسواحلها، وفي بلاد النيل والشمال العربي الإفريقي " الليبي" وتوضح أن السيرورة المجتمعية ببنيتها المعرفية هي كل متكامل، مترابط في البنية المعتقدية " الميثولوجية" وتتداخل مع الواقع الاجتماعي واللغة والآداب وغيرها، لكن هذا الاكتمال لم يبلغ ذروة نموّه إلاَّ مع القرن السادس للميلاد وظهور الرسالة المحمدية.
لذلك كانت مقاربتنا وتصنيفنا للمراحل التاريخية قد أخذت بالاعتبار تداخل كل المكونات البنائية في السيرورة المجتمعية. والمتابع لنا في الفصول القادمة سيجد نفسه بصورة أو بأخرى مقتنعاً معنا بأن التاريخ العربي ببعديه الشاقولي والأفقي يشكل ببيانه الحلزوني الصاعد بناءً متماسكاً لايمكن عزل أو فصل ع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

- الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/ :: تعاليق

تدوين الكتابي التصويري- الرمزي- التركيبي. مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وقد سميناه/ المرحلة العروبية الماقبل تاريخية الخاصة/ وقد صار بحوزتنا الآن الكثير من الحيثيات والمكتشفات والدراسات اللغوية والنمطية والميثولوجية عن تلك المرحلة.
أما المرحلة الثالثة 
فنسميها الصعود الحضاري العروبي الأول والذي يمتد حتى سقوط بابل على يد كيرش قائد الغزو الفارسي لبلاد العرب عام 539ق.م. وقد تميز بمرحلتين، أولاهما النهوض العروبي الأول والذي توّج حقوقياً بالشرائع الحمورابية كما ورد معنا، وميثولوجياً ومعتقدياً بالديانة الأتونية، ولغوياً بظهور الأبجدية العروبية، وجميعها تتمركز حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. يتلوه النهوض العربي والذي تميز بالامتداد والانتشار خارج المساحة الجغرافية العربية من ناحية المنظومة المعرفية الاناسية بعناصرها البنائية كلها.
أما المرحلة الرابعة 
والتي تمتد من سقوط بابل في نهاية الألف السادس قبل الميلاد وحتى الرسالة المحمدية فإنها تميزت بثلاث صفات هامة:
1- استمرار الانتشار العربي معرفياً وأناسياً وثقافياً وحضارياً خارج الرقعة الجغرافية العربية وخصوصاً باتجاه السواحل الأوروبية المتوسطية..
2- تطور البنية المعتقدية التوحيدية وتطورها إلى ظهور المسيحية والتي لم يكن فكرها إلاّ فكر الفلاسفة العرب معاصري المسيح، كما قال ستاندال في الحوليات الايطالية.
3- قيام الحضارات العربية البديلة البعيدة عن جغرافية الاحتكاك مع الغزاة (الانباط، تدمر، ممالك جنوب الجزيرة العربية، مدائن الشمال الافريقي العربي...)
ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة" الركود العربي الأول" والذي تلته المرحلة الخامسة والأهم وهي مرحلة النهوض العربي الشامل والذي امتد مع الرسالة المحمدية ليشمل كل جوانب المنظومة المعرفية جغرافياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً، واستمرت مراحل صعوده حتى سقوط الدولة العربية الكبرى لتبدأ بعدها مرحلة الهبوط في الخط البياني العربي والذي بلغ أشدّه بسقوط غرناطة مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد عام 1492 ميلادي ومعركة مرج دابق عام 1516. عندما بدأ الانهيار التآكلي ينخر جسد الجغرافية العربية من الشرق والغرب، لتبدأ المرحلة التي ما زلنا نعيش نشوة هزائمها حتى الآن.
أما ما نقصده بالاحداثيات الأفقية، فهي مساحة الانتشار العربي والعروبي عبر الجغرافية التاريخية والتي قسمتها كما سيلاحظ القارئ لاحقاً إلى المنطقة الشرقية العروبية وتشمل مناطق حضرموت وعمان " الحالية " والساحل العربي من الخليج العربي بما في ذلك عربستان " لأنه جزء من الجغرافية التاريخية العروبية" وبلاد ما بين النهرين والجزيرة السورية بما في ذلك كيليكيا " سيلاحظ القارئ في جزئنا المخصص للميثولوجيا العروبية المقارنة الدور الهام الذي لعبته حرّان/ مركز عبادة القمر/ أريحا في فلسطين تعني أيضاً مدينة القمر/ الإله سين" القمر" في جنوب الجزيرة العربية والميثولوجيا السومرية والبابلية، والذي ولد في جزيرة الديلم / البحرين / ومن أسمائه الكثيرة في العربية يشع، يثع، يشوع، يسوع" 23"و" حرام"= نانار= النور الذي رمز في البناء المعتقدي الرافديني والنيلي معاً إلى تحليق الأم الكبرى العادلة في السماء مبددة بنورها غربة الليل ومعطية القوة الإخصابية للنساء جميعاً"24" وهذا الرمز سنجده بدون استثناء على مجمل الرقم واللوحات والأختام والأنصاب والتماثيل على شكل شجرة/ شجرة الحياة/ مبسطة تجريدية، حيث يبدو القمر كأنه جزءٌ عضوي من أجزائها قدمتها السلطات من خلال انزياح للايقونوغرافيا السلطوية باتجاه الأمومية التي كانت عشتارية/ ثم أضحت / تموزية/، أي قبل التشاركية بين الرجل والمرأة كشكل من أشكال العدالة الذكورية_25) 
أما المنطقة الوسطى العروبية فتضم سيناء والساحل الكنعاني على البحر الأحمر وتهامة ومنطقة اليمن في جنوب غرب الجزيرة العربية وبلاد الشام ومنطقة القرن الافريقي والهضبة الحبشية وارتيريا والنوبة ووادي النيل والدلتا.
والثالثة هي المغاربية العربية وتضم الصحراء العربية الكبرى وليبيا وبلاد المغرب العربي الحالية.
وأعتقد أن القارئ سيقتنع بهذا التقسيم للجغرافيا التاريخية العربية بعد أن يتابع تأسيسي " في الفصول اللاحقة".
إذن للهوية كسيرورة تاريخية خصائص قائمة في الزمان والمكان مستقلة عن ارداتنا، وهذا ماهو قائم في الجغرافية التاريخية والتاريخ الجغرافي العربيين. فالمقدمات الميثولوجية والمعتقدية مثلاً في التثليث كانت قائمة قبل المسيحية " بشكل غير مرتبط بإرادة الجماعة البشرية العربية" وهذا مقدِّمة قبلية.. فلقد كان الثالوث المسيحي المقدّس/ الأب والابن والروح القدس/ ترداداً حقيقياً لثالوث ايزيس وأوزوريس وحور يس النيلية، أنو انليل أنكي سن شمش حدد الرافدينية، ومناة واللات والعزى في الجزيرة العربية.
ومع قدوم الهكسوس وبعده" نشأت حالة توحيدية في قمة السلطة الفرعونية، حيث عبر التأزّم الاجتماعي عن نفسه في قمة السلطة مما أدى إلى ظهور الاخناتونية، والتي كانت اصلاحاً في الجوهر فعبرت عن نفسها دينياً، بتبنيها إلهاً واحداً هو الاله الشمسي / آتون/ من دون جميع الالهة الفرعية العديدة التي كانت معبودة في العهد السابق عليه(26).
"والهكسوس على ما أرجح لفظ مركب من هيق وسوس. ومعنى" هيق" ذكر النعام، ومن الرجال المفرط الطول. وجاء في لسان العرب في حديث أحد/ انخذل عبد الله بن أُبيّ في كتيبة كأنه هيق يقدمهم. ومعنى سوس: الخيل. وقد بقي في العربية المعاصرة الإشارة إليها في كلمة" ساس " فإنه عند الإطلاق ينصرف إلى من يسوس الخيل، وعليه فيجب أن يفهم من التركيب إما ملوك الخيل، أو أصحاب نعام الخيل، والأرجح أنهم كانواً فرساناً وادخلوا الخيول إلى وادي النيل"(27).
وتطورت تلك الرؤى التوحيدية لاحقاً لتترافق مع تراكمٍ كمي هائل من الصياغات الجمالية العربية التي تراوحت ما بين التجريد البسيط في عصر الأم الكبرى، والمحاكاة في عصر الطبقات، والتجريد العميق التنزيهي في عصر انتصار المستضعفين، بحيث أضحى قيمة جمالية تاريخية، تلح للتواصل معها لأنها حاضرةٌ في كل ماهيتنا البصرية والبصيرية للانطلاق من كنه التكوين الداخلي لهذه القيمة، لتكوين خطاب جمالي معرفي مستقبلي يؤكد لمن أراد في عصر ابتلاع الهُويات والماهيات، هويتنا وماهيتنا العربيتين. لكن العودة إليه ينبغي ألا تفهم كعودة سلفوية تلفيقوية لاستعارة أشكال وأساليب ورموز إبداعية وفنية رغم أهميتها، بل العودة لفهم العلاقة التي تربطه كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي بالنمط الانتاجي المعيش والبنية المعرفية العامة للتكوين الثقافي، فالدائرة" نبع النور والطاقة"- المثلث " نبع الخصب والعطاء" الشجرة " نبع لدوام الحياة" الإنسان" نبع الخلق والعقل"(28).



الأناسة المعرفية العروبية
الماقبل تاريخية:


لا يمكن فصل فعاليات الإنسان وتطوره، وعلاقته بالبنية الإنتاجية ونموها من الشكل الفردي إلى النتاج الجماعي، عن الصفات البيئية، والطبيعية الجغرافية للموقع المعيش. فهو يشكل في وحدته مع الشرط الجغرافي والبيئي المقدّمة التأسيسية اللازمة للجغرافية التاريخية. بما يعنيه هذا من تحديد الشروط الأولية للنتاج الاجتماعي.
ولم تكن منطقة الشرق العربي الممتدة من الصحراء العربية الكبرى وحتى الخليج العربي معزولة عن التغيرات البيئية والمناخية التي تطرأ على الكون، بل يمكن القول بأن جملة التغيرات التي طرأت عليها خلقت الظروف المناسبة لحياة الإنسان ( الجماعات الأناسية) المتطور من أشباه الإنسان. وقد بدأ هذا الإنسان يرسم الخطى الأولى لعلاقته بالطبيعة بدخولٍ لا يمكن تحديده بدقة خارج التأطير العام للباليوليث الأدنى والذي يشكل 99% من تاريخ الإنسان والذي يمتد حتى (100,000) عام قبل يومنا هذا، حيث شقَّ هذا التطور نهاية لمرحلة طويلة من التطور البيولوجي استمر حوالي 14 مليون سنة من تطور الهوميثيد " أشباه الإنسان" منها 2-3 مليون سنة الأخيرة عكست الآثار الأولية لأكثر الثقافات قدماً حيث تعلم الإنسان أن يحضر أدواته، وبدأ تدريجياً يبني سكنه الأولي، ليتبعه لاحقاً بالفن الصخري. و يتموضع كل هذا الزمن في الطور الجيولوجي الرابع. بحيث تؤكد القراءات الأولية لما تركه هذا الإنسان من أدوات وآثار على جدران الكهوف أن التطور الفيزيائي- الفيزلوجي والثقافي مرتبطان بشكل وثيق. علماً بأن قسماً ضئيلاً جداً قد بقي فقط من الأدوات التي استخدمها إنسان مجتمع الصيد ولاقط الثمار. فلم تصمد حتى أيامنا تلك الأعمال والأشغال والأدوات التي صنعت من الخشب والجلد ومن لحاء الشجر والألياف النباتية- وحتى الكثير من الأشغال العظيمة التي تحطمت في وسط غير ملائم _ كالطين والصلصال.
لقد عاش على سطح الأرض، وعلى مدى 150-200 ألف سنة نوع بشري واحد وحيد ( هومو- سابينس)= الإنسان العاقل. وقد انتمت لهذا النوع، وبدون استثناء سلالات الباليوليث المتوسط و الأخير. مثلها مثل كل السلالات التالية حتى المعاصرة وكل منها قدمت قسطها في مسألة تطور الإنسانية(1).
فبعد كل النظريات والافتراضات التي كانت سائدة حول الموقع المفترض لنشوء وتطور الانسان العاقل الأولي خرج علينا العالم كوبنز بنظريته" قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري" والتي يؤكد فيها بأنه تطور على امتداد وادي الخسيف عند منابع ومجرى النيل في إفريقيا الشرقية(2)، قبل ثمانية ملايين من السنين وهذا ما يضعه في لب التأسيس التطوري للانتروبولوجيا العربية اللاحقة، خصوصاً لو أخذنا الرابط المناخي والمعيشي الوثيق بين جغرافية ذلك الوادي وامتداده نحو القرن الافريقي، وبين المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية- خصوصاً إذا عدنا بذاكرتنا إلى الخلف أكثر عندما كانت تلك المنطقة تشكل وحدة تضاريسية واحدة، واكتفت لاحقاً بالوحدة المناخية والبيئية، وتزداد أهمية هذه المعطيات الموثوقة والموثقة إذا أدركنا بأن أنهار الجليد كانت تغطي أغلب مناطق أميركا الشمالية وشمال أوروبا حتى 15,000 سنة من يومنا هذا فقط وهذا يعني أنها لم تكن قابلة للحياة الانتاجية قبل هذا التاريخ بالتأكيد.
ومع انتقالنا إلى فترة الباليوليث الأوسط حوالي 100,000 إلى 40,000 عام قبل يومنا، تميزت المرحلة الأناسية الثقافية بظهور وتطور إنسان النيارندرتال الذي كان سائداً سابقاً أنه تواجد في أوروبا! بشكل سابق لغيرها من المناطق(4) إلى أن جاءت دراسة فاندرميرس وباريوسف الموسومة ب" الانسان الحديث في بلاد المشرق(5) حيث يؤكدان أن جماعة الانسان العاقل الحديث " استوطنت المشرق العربي قبل النياندرتاليين واتبعت نمط عيش متماثل لنحو 60,000 سنة، بحيث نسفت المكتشفات الحديثة الترابط المتبع سابقاً بين علم البيولوجيا والباليو أنثروبولوجيا " علم تطور الانسان القديم" فيقولان:" إن هذا الترابط بين البيولوجيا لحضارة يصعب تطبيقه في بلاد المشرق. فقد وجد علماء المستحاثات الذين ينقبون في مواقع هذه المنطقة مجموعات من المستحاثات تشتمل على عينات يبدو أنها أقدم من مثيلاتها التي في أوروبا. (6) ويتابعان " فقد استنتج بعض هؤلاء الباحثين، بعد مقارنتهم لعدد كبير من عينات مأخوذة من جماعات بشرية إقليمية تقطن في بقاع مختلفة من العالم، أن أفراد الانسان الحديث قد نشأت في مناطق شبه صحراوية في افريقيا منذ أكثر من 100,000 عام (7). وتناسى هؤلاء الباحثون التغيرات المناخية والبيئية التي طرأت على الكون، بحيث تحولت الكثير من المناطق التي كانت تشكل غابات تلك المراحل إلى مناطق صحرواية أو شبه صحرواية، كما هو الحال بالنسبة للصحراء العربية الكبرى- الليبية نموذجاً- والتي اكتشفت فيها نقوش كهفية جدارية تثبت أنها كانت غنية ومسكونة بالحيوانات المدارية كما هو مبين0 في اللوحات المكتشفة في الصحراء العربية- الليبية وهذا يرتبط مع التوضع المناخي الملائم التالي لوادي الخسيف، بحيث كان كل من وادي النيل والدلتا، ومنطقة الرافدين مناطق مغمورة بعد انتهاء الطور الجليدي الأخير.
ويؤكد الباحثان المذكوران في دراستهما المنوه عنها أعلاه أن بعض مكتشفات الدفن في مغارة قفزة في فلسطين على سبيل المثال يدل على شعور ديني قبل ما ينوف على 100,000 سنة فقد وجدا في أحد المدافن هيكلاً عظمياً لطفل عند قدمي الهيكل العظمي لامرأة شابة، ربما تكون أمه.؟ يظهر هذان الهيكلان بمظهر الانسان الحديث ولكن حضارتهما تشابه حضارة الانسان النياندرتالي الشرقي عربي الأكثر قوة. أما في أوروبا - وحسب قول الباحثين(8) فقد أقام الأفراد ذوو المظهر الحديث وكذلك النياندرثاليوم حضارات مختلفة، وذلك بعد مرور 60,000 سنة مما كانت عليه في الشرق العربي. وهذا ما يتناقض قطعياً مع رأي الدكتور فراس السواح الذي يقول في مؤلفه" دين الانسان:" وفي الواقع، فإنه من غير المجدي التفتتيش عن دلائل وآثار الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان/ ويقصد الباليوليث الأدنى/ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها، فإذا أردنا البقاء في حدود ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن انسان الباليوليث الأدنى لم يتمتع بحياة دينية من أي نوع، وأن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي" (9). أما ما يتابعه الباحثان حول ضرورة الاستناد إلى وثائق من المكتشفات من أن عملية الدفن تلك وغيرها مما اكتشفوه في مغارة سخول بأن وضعيات الهياكل تدل على دفن مقصود، وهو أقدم عملية دفن عثر عليها حتى الآن، ويضيفان اكتشاف مجموعتين من الهياكل في مغارة شانيدار في سفوح جبال زاكروس في العراق، وكانت كلها من النياندرتاليين وتبدي ما يدل على سلوك بشري راقٍ، مع مجموعة في مغارة عمود قرب بحيرة طبرية، وهذا يعني الانتقال بالضرورة إلى عنصر الباليوليث الوسيط حيث تتقاطع في هذه المرحلة وجهة نظر الأستاذ فراس السواح مع الباحثين المذكورين حيث مارس الانسان في منطقة الشرق العربي عملية الدفن الطقسي،" فتظهر قبور النياندرتاليين في المشرق العربي تقاليد دفن تميزت بطي الجثة ضمن حفرة صغيرة وتوجيه الجسم وفق محور غرب- شرق. وتظهر الهياكل العظمية لانسان النياندرتاليين المشرقي " العربي" بوادر ابتعاد مورفولوجي (المورفولوجيا هو علم شكل الأحياء) عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال النموذجي في أوروبا واقتراباً من هيئة الانسان العاقل.
وهنا تجدر الاشارة إلى أن الحديث يدور في الشرق العربي عن إنسان متطور طقسياً ومورفولوجياً عن إنسان النياندرتاليين الذي سكن أوروبا في هذا الزمن- في المرحلة الفاصلة بين الباليوليث الأدنى والمتوسط، وفي المراحل الأخيرة من الباليوليث الأدنى" فالوجود الواضح لأفراد الانسان بأشكال حديثة في بلاد المشرق منذ 100,000 سنة يقدم حقائق جديدة لتفسير وجود مستحاثات أخرى غربي آسيا. فقد يكون لأفراد الإنسان سلسلة نسب "سلالة" محلية واسعة الامتداد إلى حدٍ ما فبقايا الجمجمة التي وجدها ثورنطيل- بيتر في مغارة زوتّيّة بالقرب من مغارة عمود مثلاً- تثبت أن تأريخها يراوح بين 200,000- 250.000 سنة مضت. وقد يكون صاحب هذه الجمجمة أحد أفراد الجماعة التي انحدرت منها جماعة الانسان النحيل " الحديث" في كل من سخول وقفزة" (10).
وليست البنية المورفولوجية للجمجمة، أو الأدوات المحيطة فقط هي التى وفقت هؤلاء العلماء إلى الجزم بوجود ذلك الفارق الزمني في التطور بل عثورهم أيضاً على العظم اللامي (Hyoid) وهو عظم منفصل يتحكم في حركة الانسان) وتم الاستدلال من خلال دراسته الدقيقة على أن جهاز التصويت لدى انسان الباليوليث الأدنى- المتوسط في منطقة الشرق العربي يشبه مالدى الانسان الحديث وإلى أنه كان قادراً على إصدار الأصوات الضرورية لكلام مقطع.
ومن جانب آخر يتجه الباحثان إلى تفسير المرحلة اللاحقة التي بدأت منذ نحو 40,000 سنة إلى افتراض" أن جماعات الانسان الحديث في بلاد المشرق العربي انتقلت وانتشرت في أوروبا وذلك بعد أن حلَّوا محل النياتدرتاليين المحليين أو نتيجة لعمليات التكاثر فيما بينهم (11).

نستنتج مما سبق أن:
- انسان الباليوليت الأدنى ترك آثاراً قابلة للدراسة في بلاد المشرق العربي في حين كان فقيراً بها جداً في أوروبا.
- ظهور الانسان الحديث كان سباقاً في بلاد المشرق على ما هو عليه في أوروبا بعشرات الآلاف من السنين.
- ممارسة الدفن الطقسي ثبتت منذ المرحلة النهائية من الباليوليث الأدنى في منطقة الشرق العربي، وبما يسبق مثيلاتها في أوروبا بـ 60,000 عام.
- وجود العظم اللامي وببنيته المعاصرة يؤكد على وجود عناصر التواصل الصوتي في مراحل سابقة لمثيلاتها في مناطق أخرى من العالم، ولآلاف السنين، مما يثبت الانخراط في عملية النتاج الاجتماعي في مراحل باكرة.
كان ذلك، كان له الدور الهام" إن لم نقل الأهم" في وسائط تعبير الإنسان عن علاقته مع الأشياء المحيطة وفي ترتيب نمطية ما من التعامل مع الجماعة المحيطة. وهذا يعني بالضرورة أن تطور الانسان الثقافي برموزه المعرفية والدينية والفنية لايرتبط بما يعنيه مستوى التطور التقني بالسوية التقانية لتطور الجماعة البشرية. أي أن التوازي في التطور التقني والثقافي هو رؤية ميكانيكية بعيدة عن الخطوط البيانية التاريخية لسيرورة الانسان. لا يمكننا أن ننفي أن السوية الراقية " بمعانيها المعرفية" من التطور الثقافي تشكل الأرضية المتينة الهامة باتجاه التطور التقني، وهي ما تدفع باتجاه تجاوز مفاهيم الزمن الاجتماعي وترتيبه الميقاتي، بخلق معادل جديد يتناسب مع التراكم الكمي والكيفي في سيرورة الأمة، وهذا ما نحاول إثباته بما يخص الأمة العربية، التي تمتلك خزاناً ثقافياً مميزاً، تستطيع الاستناد عليه لتحقيق قفزتها الحضارية التقنية في زمن اجتماعي خاص، تستطيع من خلاله تجاوز الفاصل الكبير من الزمن الميقاتي الذي يفصلها في الزمن الراهن عن المجتمعات المتقدمة تقنياً، إن ذلك يعني، بدايةً، أن التطور الثقافي لا يمكن أن يعاني من عملية قطع تاريخية، فهو عملية متواصلة سيرورية في تأصيلها وسبقها وصيرورتها اللاحقة وهو ما نقصده بعملية التأصيل في بدايات تكون المنظومات المعرفية فالحضارات الجليلة التي بناها العرب بما في ذلك البابلية والفينيقية والتدمرية والمصرية.. وحتى الاسلامية لم تكن مقاطع معزولة في تاريخ أناسي متقطع، إنها تواصل أناسي معرفي، مؤسَّس ثقافياً على ثوابت تأصيل عظيمة لا تمتد جذورها المعرفية لمراحل التاريخ الكتابي فقط، بل تمتد كما أكدنا أعلاه إلى مراحل الباليوليث الأدنى حيث تواجد في منطقتنا الانسان الحديث سباقاً بذلك تواجده في المناطق الأخرى من العالم بعشرات الآلاف من السنين. معطياً لحياته قيمةً ما، متسائلاً عن طبيعة علاقة الأرض بالسماء، والجسد بالروح، والانسان الكائن الحلم بالواقع..
إن بداية الإشكالية في التساؤل تبدأ من طرح هذه الأسئلة. وما دمنا استطعنا التقاط بعض الأجوبة من خلال تلك المراحل المغرقة في القدم، فمعنى ذلك أننا استطعنا الوصول إلى البدايات السبّاقة التي حدَّدت الملامح العامة اللاحقة لتطور الانسانية، الذي تعيش تقنيته حالياً، ملايين الناس خارج دائرة تواجد هذا التكوين الأناسي الرفيع_ العرب.
فالتكوّن الثقافي- المعرفي- الفني/ يبدأ بعلاقة الاقتراب بين مفاهيم الجسد والروح والأرض القريبة، والسماء الجسد= الأرض بمكوناتهما المحسوسة التي يتعامل معها الانسان في صيغة الأداة التي يبتكرها، أو يحتاج إليها فيطورها، وأعضاء يتعامل معها بتوافق خاص تختلط فيه الأحاسيس الممكنة مع المجهولة. والأرض بمكوناتها التي تحمل النبات ويسير عليها ذلك الحيوان الذي دفع الانسان اللاكتابي- الباليوليتي إلى نقشه في أماكن إقامته عبر إبداعات انطباعية ورمزية وتجريدية كانت تتفاعل بحركية ترقى من مرحلة إلى أخرى قابلة للتعامل مع ما يحس به أو يركن إلى اللقمة التي يمنحه إياها بعد أراقة الدم من أحد الطرفين. فيقيم لنفسه هيكلية خاصة ترتبط برمزية ما، تدخل بين الحلم والواقع وتدخلهما. فينطلق لاحقاً معبِّراً عن فن في الارتقاء نحو الأعلى- نحو السماء وقد دفعته للاقتراب إليها عبر صورٍ رائعة. دون أن ينسى حركة القمر والشمس والكواكب فيها.
فلم يترك جثة الميت ملقيةً عبثاً، لابد أن يتجه نحو الشرق حيث يشكل نافذة ولادة الشمس والقمر. وفي حالات لاحقة كانت واسمة لمنطقة الشرق العربي بدأ، بفصل الرأس عن جسد المتوفى معتقداً أن الروح فيه،ويضعه في كوخه الصخري أو في كهفه. مازجاً بذلك اختلاط معتقدات أولية صافية تزاوج بين الطوطمية وعبادة الأسلاف.
وهكذا كانت البدايات الميثولوجية للنمو اللاحق للحلزون الثقافي، الذي سنأتي على تفصيلاته الدقيقة فيما يلي من فصول. لكن التأسيس الأوّلي والهام كان ارتكازاً متيناً على تكوين سباق ومتين. فالتزيين الجنائزي بالقرون ارتبط بعلاقة ذلك الانسان بالحركة الدورية للهلال.
ولم يكن اللون الأحمر إلاَّ الرمز البسيط عن القرابين التي تقدم للمتوفى بعد أن تنثر على جثته الورود والزهور وقد سجي شرقاً بانتظار الشمس التي تحمل معها الحياة والخصب.
" إن مفهوم القربان في ذلك الزمن، مرتبط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات" (12)..
انطلاقاً من ذلك كان الانبثاق الأولي في منطقة الشرق العربي باتجاه الثقافة المتواكبة التي سبق فيها أسلافنا العرب كل الشعوب والجماعات الأخرى حتى المحيطة والتي بدأت تأخذ انعكاسها في التقدم التقني المادي التقني.. وقد بدأوا يميزون عالماً خاصاً محدداً مشخصاً في التكوين الوصفي المحيط بهم مع ما يربطه بعالم آخر قابل للتخييل، يصل بينهما الحلم أو الموت.. ومن هنا أخذت الفلسفة في بدايتها الأولى تترنح في أولى خطاها على دروب الشرق العربي، الذي تميز في مراحل الانتقال من الباليوليث المتوسط إلى الأعلى بالتدجين النباتي والحيواني وهو ما دفع أيضاً هذا الشرق إلى السبق باتجاه الميزوليثية" فكان أول وأكثر الحضارات والثقافات الميزوليثية تطوراً توضّعت في الشرق العربي، حيث كانوا أول من اكتشف واستخدم الطواحين الحجرية وكان ذلك حوالي 10,500 سنة قبل الميلاد" (13). وتلا ذلك الانتقال السباق إلى النيوليث كمرحلة أخيرة من العصر الحجري تميزت بانتقال البشر إلى الشكل المستقر للحياة" فمنذ الألف 8-7 قبل الميلاد أقيمت في الشرق العربي" مدن" محاطة بجدران حصينة (14)
وإذا كانت التغيرات المناخية والبيئية متوازية في منطقة الشرق العربي، والتي شملت دراساتها بشكل مفصل وادي النيل وما بين الرافدين إلاّ أن منطقة بلاد الشام من الشرق العربي بقيت في التحول الأساسي من العصر الحجري الوسيط " الميزوليتي الباكر" وحتى العصر الحجري الحديث " النيوليثي المبكر" موضوعة خلف مجموعة من إشارات الاستفهام التي لم تقدّم الأجوبة عليها تفسيراً تفصيلياً لقيام المواقع الحضارية العظيمة بعيداً عن الحزام الأخضر الممتد إلى الساحل البحري باتجاه الشمال والشرق الرافدي وجنوباً نحو العقبة وسيناء باتجاه الدلتا .
فيتضح التبدل المناخي في المشرق العربي بين الألف التاسع ق.م والألف السادس من انحسار نطاق النبات الطبيعي. فقد تسبب الهطول المطري الوفير في الفترة المتأخرة من العصر الحجري الوسيط في توسع مناطق غابات البحر المتوسط باتجاه الشرق. وقد حظيت هذه المناطق بأكثر من 300 ملم معدل هطول سنوي، وحظيت المناطق الوسيطة من الغابات المفتوحة والسهوب خلفها بحدود 150-300 ملم معدل هطول سنوي. وفي حين كانت غالبية المواقع السبعين المعروفة في مواقع الفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث في منطقة الهطول الأغزر أو في المنطقة الوسيطة فإن بعضها كان في جيوب سهوبية ملائمة لها على نحو خاص. فمثلاً كان موقع " أبو هريرة" وموقع" دبسي فرج- شرق" على الفرات، في حين كان موقع " أزرق" في واحة. وبعد ذلك بثلاثة آلاف عام انحسرت كل من الغابات العادية والمفتوحة والسهوب وتقدمت الصحارى. وحتى المواقع السهوبية بمواطنها الملائمة هُجرت آنذاك. ومن بين المواقع الثمانين المعروفة التي تعود للألف السادس من العصر الحجري الحديث، كانت تقع منطقة البحر المتوسط ضمن المنطقة الأكثر ملاءمة للزراعة المختلطة(15).
وبربط هذه المعطيات مع نتائج يان ايلينيك حول وجود الطواحين " الرحى" الحجرية منذ الألف العاشر قبل الميلاد في المشرق العربي نستنتج بأن تدجين النبات القمح ( الحنطة ) والجاودار والشعير في المشرق العربي كانت سابقة بالضرورة لاختراع الرحى. وإلاَّ لماذا الرحى اساساً ؟! خصوصاً إذا أخذت آلية البحث الطريق الطبيعي للتغيرات المناخية والبيئية التالية التي تدفع للاستقصاء في أوساط غير متوقعة في الظروف والشروط الحالية المناخية. وهذا أدى بدوره إلى كشف الكثير من الأسرار التي اتضحت لاحقاً في التكوين الانتاجي الجماعي التالي للتدجين النباتي والحيواني في منطقة الشرق العربي، والذي كان سباقاً بالضرورة ومن خلال الوثائق السابقة في آلية التطور الثقافي بآلاف السنين عن غيره من المواقع الأخرى التي رسمت خرائط متأخرة لانتقال النياندرتال إلى العصور التالية.
و المتتبع الدقيق لدراسة مجموعة من المواقع المتباعدة في المشرق العربي يدرك التزامن الدقيق في التطور الحضاري، الذي يشي بوحدة أناسية فريدة في نوعها. ويؤكد ذلك الباحث جاك كوفان بقوله" والوصول إلى" القرية الزراعية" حقق الوحدة بين أفراد الجماعة وأعطى لحياتهم مغزى وأهمية في إطار التطور البشري، لاسيما وأن القرية هي القاعدة الأساسية لحضارتنا المدنية. لكن سلم ذلك الارتقاء وعناصره ظهر أولاً في بلاد الشام والمشرق" (16) ومن الضروري التأكيد على أن الوضع لم يكن قفزة في فراغ، بل، نتيجة لتراكم تاريخي كمي وكيفي بطئ تالٍ للخروج من الكهف والانتقال إلى الكهف الصخري فالبيت الدائري فالمضلع وما يعنيه ذلك الانتاج الزراعي من درجة استقرار معينة في عملية النتاج الاجتماعي منظومة تقنية خاصة تحدد السلوك الانساني خصوصاً إذا توحّدت جغرافية واسعة على امتداد المشرق العربي في سويتها التطورية السباقة من الشمال في المريبط وأبو هريرة على الفرات باتجاه يبرود وسعيدة وجعيتا وعين الملاحة والطيبة في أواسط بلاد الشام باتجاه وادي الفلاح والواد وكيبارة على الساحل الفلسطيني، وجنوباً نحو شقبة وأريحا وأبو سيف والخيام وأم الزيتونة ورأس البيض ثم باتجاه رأس حريس في سيناء لتمتد لاحقاً باتجاه وادي النيل." وبذلك بدأ التاريخ يسجل بعض الأدلة على قيام تطور متشابه جداً للحضارة النطوفية في كل من فلسطين ومنطقة الفرات في أعقاب المرور المشترك بمرحلة الكيباربان. كذلك تأكدت الآن النظرية التي طرحها كل من أور وكوبلاند وأورانش والقائلة بأن بوتقة حضارية وحيدة امتدت خلال هذه الحقبة من النيل إلى الفرات " (17) ويؤكد باحث آخر وحدة مكتشفات نفس المرحلة الزمنية بين وادي النيل و" الصحراء" العربية الكبرى " الليبية " والشمال الافريقي " العربي" ف" وسط المكتشفات الليبية- المصرية تصادف النقوش أكثر من اللوحات وبفارق كبير. بين الأقصر وشلالات النيل الثانية تم اكتشاف كميات من النقوش. و تصادف هذه النقوش، عدا سهل النيل، وبكميات كبيرة في صحراء النوبة والصحراء الليبية. ولا تختلف النقوش المصرية بتقنية التنفيذ عن الآثار المشابهة الأخرى في الشمال الافريقي.. مما لاشك فيه أن علاقات وثيقة ومتينة تربط النقوش والرسوم الليبية المصرية من جهة أولى بالآثار كما تظهر لفن الشمال الافريقي من جهة ثانية. وتظهر هذه العلائق في طراز وتقنية التنفيذ تماماً كما تظهر في انتشار المواضيع المتفرقة الوصفية لكل شمال افريقيا. في ذلك العصر، وعندما تشكل هذا الفن، كانت افريقيا الشمالية بما فيها الصحراء مسكونة بشكل كثيف، وبين مناطقها المختلفة طبعاً، نشأت علاقات متينة ومتعددة (18). فالحضارة النطوفية إذن " نسبة إلى وادي النطوف قرب أريحا" امتدت من الفرات إلى النيل وهناك نجد الامتداد التالي للشمال الافريقي وهذا يعني وجود الخلفية المشتركة في المجالات المعمارية والاقتصادية والتقنية، وبالتالي وجود لغة حضارية مشتركة(19).
إن أي صفة من ملامح ذلك التقدم كانت مرتبطة بقيمة اجتماعية أخلاقية تتحدد بالابعاد العديدة للقيمة أو للعنصر الثقافي وما يعنيه ذلك من رقي عبر سلم التطور الأناسي معرفياً، ليس فقط من الجوانب الفكرية والتقنية بل من الجوانب الميثولوجية والمعتقدية أيضاً.
فمفهوم " المدن" القلاعية المكتشفة في الشرق العربي في الألف الثامن قبل الميلاد والذي يُعتبر " البرج والسور المكتشفان في أريحا- مهما كانت وظيفتهما- ينمان عن وجود نظام اجتماعي مختلف، فهو أكثر تنظيماً وجماعية في تنفيذ الأعمال المعمارية من مجتمعات القرى الأخرى"(20).
فإذا كان الكوخ هو الصرخة المتحجرة للخيمة- بتعبير جاك وفان- فهو يعني " فلسفة" خاصة ضد الترحال ونزوع للتأسيس في أرض قابلة وقادرة على حماية هذا الكائن- الانسان ذي الروح الجماعية في العمل والأكثر مودةَ ونزوعاً إنسانياً للتعاون مع الجماعة باتجاه الخلق والابداع، مما هو عليه إنسان التقنيات المتطورة غير المستندة إلى إرث ثقافي معرفي عريق. لذلك انطلق لاحقاً باحثاً عن توضع أفضل من المسكن المستدير العاجز عن استيعاب البنية الأولية للكتلة الاجتماعية- العائلة، فاكتشف المسكن المستطيل الذي عنى هدفاً اجتماعياً وميثولوجياً " فالمسكن المستدير مقيد بمساحة سكنية محددة وغير قابلة للتوسع في حين أن المسكن المستطيل قابل لكل أنواع التوسع من خلال إضافة المزيد من الحجيرات الجديدة إليه. وبناءً على ذلك أصبح هذا النوع الجديد من السكن يستوعب العائلة التي يتكاثر أفرادها باضطراد- أي أنه يفسح المجال لأنماط جديدة من السكن الجماعي أو المشترك.
لقد مر العالم بأجمعه بهذه المرحلة الانتقالية ولكن الأزمنة تختلف من مكان لآخر. ويبدو أن هذه المرحلة نضجت على الفرات قبل غيره من الأماكن(21) يضاف إلى ذلك الضرورة الميثولوجية التي تركزت حول معرفة العائلة الجديدة بضرورة الاعتماد على أرواح أجدادها- أسلافها، فبدأت بممارسة إحضار جماجمهم إلى بيوتها الخاصة، ثم انتقلت لاحقاً إلى إحداث مقابر خاصة لهم تحت مساطب تلك البيوت. بحيث شكلت ميثولوجيا عبادة جماجم الأسلاف نمطاً معتقدياً خاصاً ومميزاً. وبهذا تكمن إحدى المنعطفات الهامة جداً في تطور الجماعات البشرية، فهي لفتة حضارية هامة أسَّست للبنى الاجتماعية الأرقى لاحقاً.
إن الترابط الميثولوجي بين نمط الحياة المعيشة لدى أسلافنا في المنطقة العربية، ورموز التعامل معها يحدد البنية الفكرية وآلية التوضع اللاحق للمنظومة السيكولوجية في التعامل مع الوسط المحيط ابتداءً من الحيوان= القربان= العدو= المدجَّن= الغذاء= الإله وانتهاء بالتجريد البعيد نحو المواقع الأولى للفكر " الفلسفي " في الرمزية والتخييل بما يتجاوز البعد الدلالي المباشر إلى ما هو رمزي أو مرجعي ليس بمنظومة الفرد، بل بمنظومة الجماعة وهذا ما يشي بقدرة ذلك الانسان على التعامل مع عناصر القوة المحيطة به، والتي يعتبرها مبثوثة أو مزروعة في عناصر أخرى أبعد ما تكون عن العامل الاقتصادي الذي يربط به غذاء الانسان الذي اعتمد على النباتات المدجّنة بشكل كثيف وعلى ما يصطاده من حيوانات. فتتبادل في ذلك نوازع الخوف مع الطموح لامتلاك القوة والانطلاق عبر أبعاد نفسية وروحية متداخلة إلى السيطرة على الرمز، بحيث تتحدد العلاقة بدايةً بواقع فكري روحي أكثر من ارتباطها بالعامل الاقتصادي- الذي سيطر في الأنماط اللاحقة- تمثلت لاحقاً في بنية معتقدية اختلطت فيها حاجات الابداع والتمثل الفني مع الممارسة الطقوسية " الدينية " والاضاحي مع الحاجة الاقتصادية.وهنا تتجسد حالة الخلق والابداع في إنساننا- أسلافنا- الذين عاشوا قلقهم المبدع مقدماتٍ هامةً لمثيولوجيا سبّاقة لاحقة.
فمنذ بدايات العصر الثيولويتي في تل المريبط على الفرات الأوسط في سورية، وفي المواقع الأخرى الممثلة للمرحلة النطوفية " لدينا الدلائل الواضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط قروي مستقر يتيهأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية معمارية خاصة " تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة" أقيمت مصاطب طينية عرض في وسطها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران البرية بهيئتها الطبيعية ودون إضافات تزيينية فنية، وتشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف معزوزة بشكل أفقي، تكويناً متماسكاً معروضاً للناظرين دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككاً إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى القرنين الكبيرين، اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لاتنبى عن قيمة استعمالية معينة والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولاشك مدلولات أيديولوجية معينة (22) متعددة الدوافع خصوصاً إذا عرفت بأن ذلك لم يكن حصراً على الثور في منطقة تواجد فيها، بل في مناطق أخرى كانت الفصيلة البقرية نادرة فيها، وفي مناطق تدخل فيها الابل والغزال، لم يكن مصدراً غذائياً لندرته. لكننا وإن وقفنا مع جاك كوفان في تقديمه للعامل النفسي في تحديد الأرضية الميثولوجية لذلك الموقف الأيدلوجي الديني باتجاه خلق نوع من التحدي في علاقة التجاذب والجدل بين القوة والخوف، إلاَّ أننا لا نستطيع رد المكونات الأولية لذلك المعتقد إلى ما هو خارج الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية والطبقية المحيطة. وإلاَّ لكان من أهم المكتشفات وجود رموز لتمثلات غرائبية خارج القدرة التكوينية للتحليل والتركيب في الواقع القائم المحيط.
فلقد مثله الانسان بوضعية خاصة من القوة دفعته إلى تمثله من قبل إله الرعد والحرب في العصور التاريخية لما يملك من قدرة تدميرية جبارة تشع منه(23).
فإذا كان الفن هو الحامل الابداعي للمنظومة المعرفية بما فيها من محتوىً مثيولوجي، وإذا أخذ في بعض نماذجه محاولاً للمقاربة بين السماء والأرض، بدفع هذه الأخيرة إلى الأعلى، بما يخص المراحل التالية من التاريخ الكتابي واللاكتابي، فهذا يعني أنه في تلك المرحلة المدروسة كان شكلاً من المقاربة بين الجسد الإنساني وذلك المجهول الذي يحمل من القوة الجبارة ما يجعله مستعصياً على الإلفة. تلك القوة التي تفقد كل رموزها بعد موت ذلك الحيوان، ليتحول إلى مادة للغذاء، وعظام جماجم، وقرون تشكل نموذج القهر والخوف في لبِّ مثيولوجية أبعد من التحديد المبسط للطوطمية. من هنا كانت العبقرية في أسبقيتها المشرقية خلاَّقة أيضاً، أبعد من حدود التبسيط التي يحاول البعض ربطها بالتاريخ الكتابي المنسوب" وبالوثائق" أيضاً إلى أسلافنا العظام. وبهذا فقط نستطيع تفسير السبق الحضاري للتقديس المزدوج للثور والمرأة باعتبارها الربة الكبرى القادرة على الإخصاب والخلق بنمطية مجهولة لكنها في مقاربة المحسوس من اليد والعين.
إن التكوين السلالي المدرك في حالة تشكيل بنية النواة الانتاجية الأولية ومعنى الحياة المشتركة وما عناه ذلك من تجسيد مباشر بجماجم الأسلاف كمواد للعبادة مرتبط بشكل مباشر بترميز الربة الكبرى. وبناءً على ذلك استخدم الناس في بلاد الشام من آواخر الألف الثامن وحتى أواخر الألف السابع قبل الميلاد جزءاً من الهيكل العظمي، وهو الجمجمة ليجعلوا منها تشخيصاً حقيقياً للأموات في مساكن الأحياء.
فالجماجم كانت حضوراً قدسياً" رمزياً" يعني القدرة على التواصل والتأصل والأصالة، فرسّخت مفهوم واقع النتاج الزراعي " وانتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة" (24) وطرحت مفهوم الاستمرارية الروحية للسلف عبر تجسيده بأحد رموزه " الجمجمة" وما محاولات محاكاة الواقعية فيها من خلال استخدام القواقع والصدف لتحديد معالم العيون أو استخدام الخطوط البنية اللون للتعبير عن الشعر، إلاَّ إحياءً لمعالم وجه الميت طموحاً تشخيصياً لآلهة قائمة في روح ذلك السلف حيث اعتبرت متمركزة في رأسه وما يحتاجه الأحياء بذل ما يستطيعون من محاولات لابقاء تلك الروح بأحد رموزها موجودة في الآن القائم. فهو غير قادر على التعبير عن اكتشافه بأنه الخلف لذلك السلف إلاَّ عبر طقس ميثولوجي خاص ترسمه أيديولوجيا الأنساب في تناسق ابداعي رفيع أبعد وإلى الأبد مرحلة الطوطمية من مسرح ميثولوجيا الشرق العربي " فالقطيع كان ملكاً لمجتمع القرية ومن الممكن انتقال ملكيته في الفترة التي عمت فيها الزراعة بكل نتائجها والتي تجلت في امتلاك الأرض وفي خلق قيمة لمساحات الأراضي من خلال استغلالها زراعياً وفي انتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة، نجد في الحضارة غير المادية لتلك الفترة آثاراً ملموسة لأيديولوجية الانسان. فكل شيء مرَّ وكأن البشرية وصلت إلى موقف أكثر فاعلية إزاء الطبيعة بحيث أعطت قيمة لنوعها. وذلك بأن جعلت عبادة أمواتها جزءاً من الحياة اليومية. يُضاف إلى ذلك ما سبق أن أثبتناه على صعيد محسوس وهو رسم معالم لحظات خيالية أو ترسيخ الوعي الساطع للصنف الشخصي الذي رأيناه يتسلق فكر وحضارة المزارعين الأوائل في التاريخ .. إنه شغل الرجل"(25).
إن تقديس الأمومة وعبادة الثور من البوادر الفكرية الأولى الهامة للمجتمع الزراعي، ولذلك فقد قُدِّر لهذه العبادة أن تلازم بلدان الشرق القديمة آلاف السنين. ولا تقل أهمية الثور المقدس عن أهمية تلك التماثيل الأنثوية الصغيرة والمصنوعة من الطين المشوي" (26) ولكن عبادة الأسلاف ودخول ايديولوجية السلالة الميثولوجية أزاح الشقَّ الأول عن مسرح البنية الثقافية، فمن الجدير بالذكر أن هذا الطقس كان معروفاً أيضاً في وادي النيل وفي نفس المرحلة الزمنية الموازية في مريمدي " مصر" حيث ثبت ذلك وفسرت عملية دفن الموتى في البيوت على أن السكان القدماء كانوا يعتقدون أن أرواح موتاهم كانت تشاركهم موائد الطعام(27). وكما أسلفنا سابقاً، لم يكن ذلك معزولاً عن جملة التغيرات المناخية والبيئية التي شملت المنطقة العربية عموماً- في بلاد الشام كما شرحناه أعلاه، وفي بلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية ووادي ودلتا النيل، والصحراء العربية الكبرى" الليبية". فبعد أن أخذت الأمطار تقل تدريجياً، وأخذ الجفاف بالازدياد وشهدت هذه الفترة مولد نهر النيل بشكله الحالي... منذ الألف العاشر قبل الميلاد توازن البنى الحضارية الثقافية الجولانية للجماعات البشرية في المشرق العربي إلاَّ أنها كانت متوافقة في ارتقائها للسلم الحضاري. فالدكتور عبد العزيز عثمان يقترح انتقال الحضارة النطوفية التي نتحدث عنها من وادي النيل باتجاه بلاد الشام،" فاستمرت صناعة الأحجار الصغيرة الدقيقة ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي كانت منتشرة في الفترة الآخيرة من الحضارة السبيلية وانتقلت من حلوان إلى فلسطين وتمثلت في الحضارة النطوفية" (28) لكنه يعود ويقول:" لقد كانت سورية في العصر الحجري النحاسي كما كانت في العصر الحجري الحديث المركز الحضاري الرئيس في الشرق الأدنى بأسره، ويرجح بعض العلماء أن معرفة النحاس قد انتشرت من سورية إلى جميع جهات الشرق الأدنى كمصر وبلاد الرافدين، كما أنهم يرجحون أن استعمال الخزف وتدجين القمح والشعير وبعض الأشجار كالتين والزيتون والكرمة وتدجين بعض الحيوانات الأهلية التي عثر على دمى لها مصنوعة من الطين كالثور والغنم والماعز والخنزير وبعض الطيور كالحمام، انتشرت من سورية إلى المناطق المجاورة.

وكانت مراكز حضارة هذا العصر تقع غالباً في أودية الأنهار وبعض السهول اللحقية، وتعتمد زراعتها على الري، وتشمل إلى جانب الحبوب والأشجار المذكورة سابقاً بعض أنواع الخضار كالبصل والثوم والخس والحمص والفول وغيرها" (29) ويعود باحثٌ آخر للإجابة على السؤال بمنحى آخر فيعتبر أن المصدر المبدع للخزف الملون كان في بلاد ما بين النهرين ومنه انتشر إلى المواقع الأخرى من الشرق العربي فيكتب فانديفر ب.ب:" ومنذ عام 5500 قبل الميلاد اكتشف الخزافون في شمال ما بين النهرين أنَّه يمكن التحكم بلون الصلصال المحروق، وذلك بضبط حرارة الفرن.." (30).
لكن ما يتّفق عليه الجميع هو الوحدة الحضارية المتكاملة للمنطقة العربية، بغض النظر عن الحركية الجولانية والتي تدخل هنا في عدد كبير من الاحتمالات، والتي لاتهم دراستنا بشيء، لكن مايهمنا هو ذلك التأسيس الواحد لبنية ثقافية واحدة على مساحة الوطن العربي، اكتفت في أحد جوانبها بالصقل الميثولوجي المتصاعد المتواصل، والذي لم يُعانِ من أيِّ انقطاع، انتقل من النماذج الأولى التي تحدثنا عنها، حيث كان الفرد جزءاً من جماعة يتفاعل مع عناصرها بإبداع الطفولة البشرية بمعناها الخلاّق وليس الساذج، بمعناها الترابطي التعاوني وليس الأناني العدواني، ذلك حين بدأ يميز الفروق المحسوسة بين الحلم والواقع، حيث بدأ يميز بين الحدث الواقعي والحدث الحلمي وما يعنيه ذلك من صفات خاصة تُداخلُ بين التخييل التركيبي والتحليل التخيلي. فاندفع يبحث عن قيمة الانسان كحالة مركزية ترسخت لاحقاً في البنى الفلسفية البسيطة بقيمها، وليس الساذجة. فاتكأ على علاقة الخصوبة بين المرأة القادرة على الانجاب والطبيعة القادرة على الخلق والتوالد، فقد عُثر في تل مريبط على رأس بشري منحوت من الحجر، ودمية امرأة من الطين هي الأولى من نوعها في العالم، حيث يظهر تقديس المرأة في هذا الوقت المبكر من التاريخ الانساني، كما تشير إلى نمط تفكير انسان ذلك العصر الذي ربط بين المرأة والطبيعة من حيث الخصوبة واستمرارية الوجود، فكان أول من عرف فن الرمز والتجريد. كما أثبتت حملة التنقيب والانقاذ الدولية لآثار بحيرة الأسد التي شملت مواقع حضارية على ضفتي الفرات في الجزيرة الشامية، وذلك في موقعي تل حبوبة وجبل عرودة أنَّ الإنسان في هذه المنطقة عرف الكتابة أيضاً بشكلها البدائي المبسط والذي تطور فيما بعد ليصبح الخط المسماري(31).
وقد استدل روبرتسن سميث من لفظة" البطن"و" الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسماءها من الأمومة ومن الطوطمية. ورأى أن كلمة البطن في الأصل كانت تعني معنىً آخر غير الذي يذهب إليه علماء الإنسان، ودليله على ذلك استعمال " رحم" (32) وكان يقصد بالجغرافية التاريخية للجزيرة العربية، أي الامتداد الجغرافي الطبيعي للهلال الخصيب. وهو ما يؤكد التوازي ليس في البنية التطورية التاريخية فقط بل وفي رموزها المثيولوجية بما يتوافق مع المرحلة التاريخية" الزمنية المدروسة".
فالقراءة النقدية الشريفة تدرك وبشكل حيادي طبيعة التداخل في البنية الديموغرافية، منذ المراحل المغرقة في القدم من التاريخ " الباليوليتي" فتبين من فحص الأدوات الحجرية المنسوبة إلى المراحل الباكرة من الباليوليث، في الجزيرة العربية أنها استوردت من فلسطين أو بلاد الشام لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عُثر عليها هناك(33). وتؤكد هذه الآثار أن الجزيرة العربية كانت مأهولة بالناس منذ المراحل الباليوليثية الباكرة. حتى الأدوات الصوانية التي اكتشفت في الربع الخالي وحضرموت.. هي من النوع الذي عُثر عليه في جنوب فلسطين(34).
ونلاحظ نفس المواصفات والعلامات المؤكدة للوحدة التاريخية والجغرافية، إذا اتجهنا شرقاً وشمالاً نحو البحرين " الديلم" فقد عثر في البحرين أيضاً على عدد من رؤوس حراب وسكاكين صنعت من الصخور الصوانية، قّدّر بعض الباحثين عمرها بما يترواح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عُثرَ عليه من هذه الأدوات أحجار سنَّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض(35) ومن المثير للانتباه أن هذه الأدوات هي تالية للتدجين النباتي، ولا يمكن أن تكون سابقة له.
ويمكننا أن نضيف لما أثبتناه في بداية هذا الفصل التداخل الجغرافي(الترابط) والذي يفرض بالضرورة تواصلاً بشرياً موازاياً، بين الساحل الشرقي الافريقي المقابل لليمن ولحضرموت. وذلك بتأكيدنا حول قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري على دور وادي الخسيف في ظهور الإنسان العاقل الأول " بدراسة كوبنز"، وما يعنيه ذلك الترابط الجغرافي السابق قبل تشكل الممر المائي عبر مضيق باب المندب وما يعنيه ذلك التواصل اللاحق في الألوف الأولى من الباليوليث الأدنى، وهل يمكننا أن ننفي أن هناك أصلاً استمراراً جغرافياً للساحل المذكور مع الجانب الآسيوي." فمن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضر موت بالسواحل الافريقية المقابلة كان قوياً ووثيقاً في العصور الباليوليثية، هو عثور المنقبين على فؤوس وعلى أدوات أخرى هي من صناعات افريقية، دليل على شدة العلاقات ومنبع توثقها بين افريقيا والسواحل العربية الجنوبية " (36) وهو ما يشير إلى التأسيس الانتروبولوجي اللاحق لوادي النيل، وما يعنيه ذلك التأسيس من رموز ميثولوجية وطقسية واحدة،" فعثر على كهوف من العصور الباليوليثية، وقد صورت على جدرانها صور حيوانات وصور الشمس والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي" يبعث " ووادي " عرقه" وهي تشبه في أهميتها من ناحية الدراسة الأثرية الصور المتقدمة التي عُثر عليها في " كلوة" في الأردن.
وجميعنا يدرك دور الشمس في المظاهرات التالية لمثيلوجية المنطقة العربية من جزيرة الديلم شرقاً وحتى السواحل العربية الافريقية الشمالية وبنفس الدور والأهمية ينخرط الآله القمر. وقد شكلا بنيةً مثيولوجية متتالية متصاعدة سنعرج على بعض جوانبها بالتفصيل لاحقاً.
ومن هذا نستنتج أن منطقة الشرق العربي تميزت بسبقٍ مهم على كل مستويات التسلسل الزمني الباليوليثي بسويّاته الثلاث وصولاً إلى العصر النيوليتي والذي كتبت عنه مجلة" العلم والحياة" العدد الرابع 1991 (37)، بأن الشرق العربي، هو مهد الثورة النيوليتية، وبدراسة تجمع آراء العديد من الباحثين الآثاريين لمراحل ما قبل التاريخ كتبت تقول بأن العصر النيوليتي في الشرق العربي مذهل حقاً، بل يستحق صفة" الثورة " عن جدارة واستحقاق. ولكن هل كانت ثورة بيئوية، أم مادية، أم ثقافية؟ وقبل أن ننتقل للإجابة التي أوردها المصدر المذكور، لابد أن نشير إلى أن السياق العام المتعدد المستويات الذي تحدثنا عنه، بما يخص التطور الانتربولوجي المعرفي في توصيفاته الميثولوجية الأولى، يؤكد أن الثورة الثقافية والتي كانت المظهر الأناسي المعرفي للتطور البيئي- المادي، ما كانت لتحدث كقفزة في الفراغ بدون التطور المادي البيئي" والبنى التحتية ذات الصيرورة المادية- البيئية. ويؤكد البحث المذكور أعلاه بأن الشرق العربي، هو مهد" الثورة " النيوليتية، وكلمة المهد المستخدمة بالدراسة، توحي بالوحدة الجغرافية للسيرورة، في حين شهدت مناطق أخرى عديدة من العالم تحولاً من النمط نفسه وبالمقابل، الشرق العربي هو أبكر مناطق العالم نضوجاً: لقد انطلقت سيرورة تحوّل الصيادين - القطافين إلى مزارعين- مربي حيوانات، واكتملت هنا في وقت مبكر لم تجاره في بكوريته أية منطقة أخرى(38).
لقد استمرت الحركة النيوليتية الطويلة أكثر من أربعة آلاف عام، وخلال هذه المدة غيرت الجماعات البشرية وعدلت، بالتدريج، في سلوكياتها، فاستبدلت الحركية الضرورية لاقتفاء أثر الطرائد والنباتات البرية، لدى الجماعة، بالاستقرار المتدرج في الوقت نفسه والمواقع ذاتها. وانتصبت مكان التخييمات" الفصلية والمآوي الخفيفة والعابرة، أولى القرى التي ضمت أكواخاً ذات هياكل أقوى، تُسكن على مدار العام، وقد تمثلت هذه المرحلة بـ Les NOTOUFINES الذين استقروا في بلاد المشرق العربي منذ الألف العاشر قبل الميلاد، وشكلوا بذلك، الجماعات الحضرية الأولى في التاريخ والتي انبثقت فيها المعالجات التي قادت مع بداية الألف الثامن قبل الميلاد إلى أولى التجارب الزراعية النوعية بعد أن " استغلت" لفترات طويلة في عملية تدجين تمهيدية وظهرت بشكل نوعي الزروع الأولى " القمح والشعير والشيلم" وأولى القطانيات " الجلبان والفول" بشكلها الداجن النوعي. وهذا عنى من الناحية الذهنية التعامل بطرائق عقلية خاصة، قادرة على التحليل والتركيب والتجريب والتجريد بحدوده وعلاماته البيّنة، رغم نمذجتها الأولية والتي أفضت بالتالي إلى التجديد الجوهري بهيمنته التدريجية على الطبيعة المحيطة.
فالتحكم بموقع الحقل، وبجودة المحصول وكميته أدى إلى رؤية خاصة لقوة العمل ومدته، وارتباط ذلك ببنية الانسان القادر على التعامل مع محيط أكثر تعقيداً أدى بالضرورة إلى تطور أناسي معرفي انتقل بمقدرات الانسان في المشرق العربي إلى حالة تجريد الظاهرة لضرورة معالجتها. فالاستقرار الموقعي المرتبط بما سبق أدى إلى التآلف التدريجي مع بعض الأنواع القطيعية التي كانت محط صيد متميز " الماعز، والخراف والبقريات" بحيث تم الحفاظ عليها قريبة من مواقع العيش قبل الانتقال إلى تدجينها والتحكم بتكاثرها. وهكذا حددت الآلاف الثلاثة (10,000-7000ق.م) المميزة للثورة النيوليتية في منطقة الشرق العربي، معالم هامة لظاهرة ضخمة وحيوية ونوعية. فعلى المستوى التقني طورت صناعة حجرية أساسية قوامها أدوات صغيرة ودقيقة الأبعاد جداً، واستبدلت هذه الأخيرة بأدوات جديدة، يوحي شكلها مباشرة بمجال وظيفتها، كرؤوس السهام، وأنصال المناجل، مع أسنان وبدونها، وظهرت تقنية صقل الحجارة التي أتاحت لقاء عمل مسبق وأطول مدة مرة أخرى استغلال مواد أكثر صلابة، وبالتالي أكثر استمرارية وخدمة من الصوان المشذب التقليدي:
الفؤوس، والبليطات المعقوفة المقاطع، والمجارف المصقولة تكاثرت نحو 7500 ق.م. وكانت هذه التقنية نقطة انطلاق لأشياء جديدة كالأوعية أو الأطباق الحجرية وأدوات الزينة والأساور. وظهرت في نفس الفترة مواد مبتكرة نتيجة التكليس كالجير والجص، من ثم إعادة تمييه الحجر الكلسي أو الجبس، وبعد ظهورها في بداية الألف الثامن راج استعمالها في البناء " لياسة الجدران، وفصل الأراضي." وفي صناعة الآنية (39). ومع بداية الألف السادس قبل الميلاد استبدلت هذه المواد بابتكار آخر أي السيراميك " الفخار"/ تربة مقولبة قبل الشيّ. وروفق ذلك بابتكار فن العمارة ابتداءً من الكوخ الصخري، فالبيت ذي الجدار الدائري، فالبيت ذي الجدار المضلع القابل للتوسع كما تحدثنا أعلاه.
" فإذا تمسكنا بالأدلة الناتجة عن تحليل العمارة فإن فرضيات جديدة ستنضم إلى الضرورات التي تفرضها البيئة، وفي الحقيقة سنميل إلى تثبيت الاعتقاد المسبق بوجود درجة من درجات التنظيم الاجتماعي، أتاحت للجماعات البشرية، كما في الألف الثامن، أن تتكاثر وينمو عددها محلياً فالانتظام المتراص للمساكن على طول " الشوارع"/ في أبو هريرة وفي الرماد / دليل على وجود نمط جديد من ترابط النسيج القروي. كذلك فإن الدليل الضعيف حتى الآن على وجود مجاري وقنوات للمياه في بقرص يمكن أن يطرح أمامنا مسألة التوزيع البلدي للمياه، وهو وجه من أوجه التنظيم البلدي الذي أراد الأستاذ تشايلد أن يرى فيه نقطة الانطلاق نحو التمدن"(40).
كانت تلك الأرضية الاقتصادية، نموذجاً خاصاً للرؤية التجريدية، في فصل المنظومة العقلية المتعافية في تعاملها مع حالات أكثر تعقيداً، بحيث ينتقل التدجين من كونه فعلاً تلقائياً تقوم به الجماعة بإدارة ما تنبته الطبيعة إلى فعلٍ قادر على ممارسة الفعل نفسه في منطقة لا تنبت تلك النباتات البرية، بحيث تنقل الحبوب من منطقة لتزرع في أخرى لم تكن مهيأة مسبقاً للنمو التلقائي" فموقع راس شمرة " أوغاريت " يقدم لنا الشواهد الأولى على الاستقرار الزراعي في منطقة لا تنبت الحبوب البرية فيها " (41) منذ الألف الثامن، وهذا يعني وجود التصوّر/ النموذج لاستنبات المحاصيل ورعايتها خارج مواقع تواجدها التلقائي، مما حدا بالجماعات البشرية في المشرق العربي إلى الطموح لاختيار مواقع معيشة أكثر تلاؤماً مع الظروف البيئية ليس الطبيعية فقط بل والانسانية في معانيها الأرقى" فقد رأينا أن هجرة الموطن كما في حوض الفرات، في المريبط، لم تكن تعني هجر المنطقة نفسها، ففي الوقت الذي هجرت فيه المريبط نشأت في نهاية الألف السابع ثلاث قرى جديدة إلى الجنوب من الخط المطري الحالي البالغ 200 مم، وهي ابو هريرة وبقرص على الفرات والكوم في حوض تدمر" (42)، وذلك لم يميز فقط منطقة المشرق العربي، بل امتد ليصل إلى المغرب العربي، وذلك بالتوازي والتوافق الحاصل في البنية التقنية والسوية الحضارية لكلٍ من الحضارة النطوفية " والتي تحدثنا عن علاقتها بما يوازيها في وادي النيل" والحضارة القفصية، وبما عناه ذلك من بنية مثيولوجية كانت تشكل جوهر التوصفات اللاحقة في تطور البنى والمظاهر الطقوسية برموزها المتعددة. فالطيب تيزيني يؤكد على ذلك في كتابه الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى حيث يقول :" فلقد اكتشف العلماء الآثاريون معبداً لعله الأقدم من نوعه، وذلك في حضارة أريحا في فلسطين. أما تاريخه فيعود إلى ما قبل الألف السابع قبل الميلاد. في هذا المعبد وجدت أنصاب وتماثيل لعدد من الحيوانات الأهلية " أغنام وماعز وأبقار وخنازير" إضافة إلى شكل لعضو الرجل الجنسي. وقد جعل هذا الاكتشاف وليم أولبرايت يصل إلى الاعتقاد بأن أقوام العصر النطوفي الذين عاشوا في تلك الفترة التاريخية البعيدة، في كنعان كانوا من عبدة العضو الجنسي. والأمر هذا نفسه نتبين تعبيرات أخرى له في الحضارة القفصية في تونس"(43).

وبالعودة إلى بلاد الرافدين فلقد " وجدوا بقايا حضارة مختلفة تماماً عن حضارة أور على عمق ستة عشر قدماً من مستوى سطح أور التي عاشت حوالي 2700 ق.م لقد وجدوا مدينة ذات منازل من الآجر حسنة البناء عمرها ستة ألاف سنة. وعرف وولي أنه اكتشف أقدم حضارة على الأرض" (44). وبحديثه عن البنية المثيولوجية لتلك الجماعة البشرية يقول ليونارد وولي: " وكانوا يلقون الميت في قبره على أحد جانبيه ويجمعون ركبتيه إلى صدره، بدعوى أن الانسان يأتي إلى الدنيا بهذا الشكل وعليه أن يغادرها على هذا النحو أيضاً: وكانوا يعتقدون أن الموت عبارة عن انتقال إلى عالم آخر، ولذلك تراهم يضعون إلى جانب الميت أواني الأطعمة ووسائل الزينة وغيرها من الأدوات البسيطة التي يحتاج إليها الفرد في حياته الاعتيادية، وذلك مما يدلنا على اعتقادهم بعودة الروح إلى الجسم، وحينئذ يحتاج الميت إلى ماوضع بجانبه"(45) لكن هل كان ذلك نتيجةً لعدم قدرة الانسان على الفصل بين الحلم والواقع، بحيث كانت تتردد في أحلامه وجوه أسلافه وأترابه المتوفين بشكلها الحي بحيث لا يستطيع تمييز ذلك عن واقعة الموت؟ أم كان نتيجة لبنية مثيولوجية كاملة تتوضع بالإيمان اللاهوتي ببعث الميت حياً في زمنٍ لاحق؟ أم كان متوضعاً في بداية ادراك الانسان لمعنى الموت وما يتركه في النفوس من خوف يستدعي الإيمان بالانبعاث كمخرج حتمي من هذا المصير؟ سنأتي على ذلك لاحقاً مع الاستمرار بالقراءة الانتروبولوجية المعرفية لتطور الميثولوجيا العربية في صعودها اللاحق.


الحراك الجغرافي الأناسي العروبي-
مع فجر التاريخ

نستنتنج مما سبق أن إنسان المشرق العربي بدأ مع نهاية الألف السادس قبل الميلاد بالانتقال من:
1- وحدة الواقع والحلم.
2- وحدة الأرض والسماء.
3- وحدة القائم حالياً مع الخلف والسلف.
إلى:
1- التمييز بين الواقع والحلم.
2- فصل الأرض عن السماء.
3- التمييز بين ما هو قائم في " الموضوع" عن الخلف والسلف.
لكن وبعد أن أثبتنا التوازي والتطابق في التطور، وحتى تلك الفترة، على كامل مساحة الوطن العربي والتي ضبطناها جغرافياً وحددناها ضمن دائرة البحث بالشرق العربي " الأدنى" / بلاد الشام وبلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية/ وبشمال افريقيا مضافاً إليه السودان كامتداد جغرافي وطبيعي وديمغرافي لوادي النيل والساحل الشرقي للبحر الأحمر وامتداده التالي في الساحل الصومالي مروراًبالقرن الافريقي، لابدَّ من المرور على الحركية الديمغرافية باحتمالاتها المفترضة وبالسياق التاريخي المفسر. برغم وجود احتمالات نظرية أخرى لطبيعة واتجاهات حركات جولات الكتل البشرية في المنطقة العربية المحددة أعلاه. فلقد " أكد عدد من مشاهير علماء الآثار أن الهجرات من جزيرة العرب لم تقتصر على سورية وفلسطين ولبنان / بلاد الشام/ والعراق، بل تعدتها إلى مصر أيضاً حيث يعتقد بأن جماعات نزحت من جزيرة العرب إلى وادي النيل واستقرت فيه في حدود الألف الرابع قبل الميلاد، فجاءت هذه الجماعات إلى مصر من بزرخ السويس أو من طريق جنوب الجزيرة عبر مضيق باب المندب"(1).
وهنا لابد من التذكير بحقيقةٍ ثانية/ بالاضافة إلى الحقيقة الأولى التي أوردناها في الفصل السابق/ مفادها أن الامتداد العربي في القارة الافريقية هو أوسع في جغرافيته الطبيعية والديموغرافية مما هو عليه في آسيا ." فيذهب البعض إلى أن الهيكل المنضدي المصدوع الذي يمثل سواحل اليمن والحجاز- يظهر بشكل متشابه في سواحل أفريقيا فيما وراء البحر الأحمر، مما حدا بالجغرافيين إلى اعتبار شبه الجزيرة العربية جزءاً من القارة الافريقية يفصله عنها شبه انحراف "(2) كما يذهب البعض الآخر، إلى أن البحر الأحمر في عهود جيولوجية غابرة كان عبارة عن بحيرة مغلقة تتوضع بين القارتين الافريقية والآسيوية. أما الدراسات الحديثة لدى بعض المفكرين الافريقيين في غرب أفريقيا فترى أن القبائل العربية عبرت مضيق باب المندب من اليمن إلى شرق أفريقيا وعبرت القارة على طول خطوط العرض حتى استقرت في بلاد اليوربا، غربي نيجيريا، وفي السودان الغربي، وأوغلت جنوباً عن طريق بحر العرب والمحيط الهندي إلى زنجبار وشواطئ كينيا وتانجانيقا ومن هناك توغلت على خطوط العرض حتى عرفت جبال القمر وهضبة البحيرات وأكثر من هذا وصلت إلى تقسيم المياه بين نهري النيل والكونغو(3).
إن الأخذ بهذه المقولة يبدو سليماً من الناحية العلمية خصوصاً إذا أدركنا طبيعة الحركية الديمغرافية مع الظروف والشروط البيئية والطبيعية. وقيام الحضارات الأولى في المناطق الزراعية المستقرة نسبياً مع بقاء حركة الجولان في مناطق الرعي والصحراء مفتوحة على احتمالات عديدة ومتشعبة. بحيث لم تكن الجزيرة العربية أشبه بكأس ماء على حد وصف المستشرق غوستاف لوبن كلما زدنا امتلاء الكأس فاض الماء عن الكأس وسال عن أطرافه إلى مالانهاية. ففي العصور الماقبل تاريخية تذهب الدراسات إلى أن " هجرات "- لأسباب مختلفة - تمت بين مناطق الوطن العربي وحتى فجر التاريخ، ولم تكن الحضارات التي نشأت إلاَّ نتيجة امتزاج جديد بين العناصر العروبية ذات النشأة الواحدة بعد أن تفرقت وعادت لتلتئم.فحضارة وادي النيل العظيمة نمت وتطورت بتدفق الهجرات من جانبي الوادي، من الصحراء الليبية غرباً، ومن صحراء الجزيرة اللتين كانتا غزيرتي المياه مناسبتين للحياة من جهة، وتجفيف المساحات الشاسعة من مجرى النيل الذي كان مجرد مستنقعات، بحيث صار من الممكن العيش فيه من جهة أخرى. وتكونت " مملكتان " في الشمال والجنوب من الوادي حتى تم توحيدهما أواخر الألف الرابع ق.م. وتكوين التاريخ المكتوب لحضارة مصر القديمة (4). واستمرت الهجرات من الصحراء الليبية حتى بعد ذلك. في نفس الوقت الذي دفعت فيه الجزيرة هي الأخرى بموجات اتجهت هنا وهناك. فإلى مصر عن طريق عبور البحر الأحمر وصلت مجموعات كونت دولة الصعيد. "وما يؤكد ذلك أن البلاد المعروفة اليوم باسم " اثيوبيا" لم تُعرف عند العرب- قبل الاسلام وبعده- بغير اسم الحبشة ومن التسمية العربية أخذ الأوربيون تسميتهم للبلادAbyssinia والتسمية " الحبشة" نسبة إلى قبيلة " حبشت" التي قدمت من اليمن / مهرة بحضرموت/ أو تهامة اليمن. ويمكن القول إجمالاً إن الجنس الغالب في الحبشة شبيه عرقياً بسكان جنوب الجزيرة العربية. بل إن تاريخ الحبشة يبدأ في الجزيرة العربية. وكانت الحبشة- عبر تاريخها الطويل- جسراً بين قارتي آسيا وافريقيا. وكثير من سكانها قدموا من الجزيرة العربية منذ زمن بعيد عبر مضيق باب المندب الذي لا يتجاوز عرضه- حالياً- عشرين ميلاً" (5) والمتفحّص لتسمية الأماكن والأنهار والتضاريس منذ فجر التاريخ وحتى الآن، يدركُ أن الحبشة كانت العتبة التي وطأتها أقدام العرب في انتقالهم اللامتقطع باتجاه القسم العربي من افريقيا، فيكتشف أن أسماء تلك الأماكن في الجانب الافريقي من أصل يمني مثل: سبأ، سَحرت، هَوزن، سراة، مأرب(6)... وهي بالتأكيد أسماء نقلها المهاجرون من وطنهم الأصلي إلى حيث استقروا.(بالنسبة للتطابق في الأثر اللغوي والميثولوجي والديني فسيرد في فصوله الموافقة) "ففي عام 1681 أعرب هيبوب لودولف عن وجهة نظره بأن حضارات الحبشة يمكن ارجاعها إلى مهاجرين قدموا من اليمن، استناداً إلى التشابه بين لغة البلدين ووجود عناصر مشتركة في دياناتهما وعاداتهما القديمة، والتشابه في الملامح والهيئة.. وأشار لودولف على وجه الخصوص إلى أقوال الجغرافيين القدامى. فقد أورد أحدهم - ستيفانوس البيزنطي- فقرة من" العربيةArabic من تأليف أورانيوس عرَّف فيها الأحباش بأنهم من أصل عربي قدموا من اقليم يقع وراء سبأ وحضرموت. وأعرب لودولف عن اعتقاده بأن اسمهم لابد وأن يُخفي اسم الأجداد العرب للأحباش. إلاَّ أنه لم يتمكن من تحديد الموضع الذي قدموا منه من اليمن، ويبدو أنه حسبهم قدموا من تهامة على ساحل اليمن. كما أنه لم يتوصل إلى تحديد هجرتهم من اليمن واكتفى بالقول إنها هجرة قديمة منذ ما قبل ميلاد المسيح. والأصول العربية للثقافة الحبشية أخذت طابع الحقيقة المسلّم بها بعد أن قام النمساوي د. هـ. ملر سنة 1893 بنشر قطع من سبعة نقوش كتبت بحروف جنوب الجزيرة العربية " المسند" عُثر عليها في بلدة يحا Yaha على بعد خمسين كيلو متراً شرقي أكسوم على الطريق المؤدية إلى ميناء أووليس " عدولي" القديم (7). وعندما درس جليسر القضية سنة 1895 رأى أن التسمية " حبشة- حبشت" منذ زمن عريق في القدم كانت تسمية عامة لكافة مزارعي وجامعي اللبّان، لافي جنوب الجزيرة العربية فحسب بل أيضاً في الصومال والحبشة واعتبرهم استمراراً ثقافياً واحداً، وبرر رأيه بورود الكلمة" ألف مضة" حبستي في النصوص الهيروغليفية القديمة وبالرجوع إلى المعنى الأصلى للفعل العربي " حبش" وهو" جمع(8) ولا أعتقد من ناحيتي بأن من الضرورة بمكان تذكير القارئ بأن جنوب الجزيرة العربية كان المصدر والمنتج الوحيد للبخور واللبان في كل نواحي العالم المعروف منذ ما قبل التاريخ وحتى المراحل التالية من الحضارات الجليلة.
وفي عام 1962 نشر الباحث الفرنسي دروز Drewes دراسة تحليلة للنصوص الحبشية في كتاب صدر في ليدن بعنوان" نقوش من الحبشة القديمة" ومن أهم النقاط التي أثارها تلك المتعلقة بهوية الشعب الذي أدخل ثقافة جنوب الجزيرة العربية إلى الحبشة، وبالتالي أصبح مقبولاً بأن حبشت كانت في الأصل قبيلة من جنوب الجزيرة العربية عبرت في وقت مبكر- قبل القرن الخامس قبل الميلاد بزمن طويل- البحر الأحمر واستقرت بادئ الأمر على ساحل أرتيريا " سهل سمهر" وتسربت تدريجياً إلى أقاليم المرتفعات في الداخل الحبشي حول يحا وأكسوم(9).
"أما المستشرق الايطالي كونتي روسيني فيرى أن شعب الحبشة قدم إلى افريقيا من ساحل اليمن أو عسير/ مما يسهل لقربه عملية العبور إلى ساحل ارتيريا. وهو يرى أن أحد المواطن الرئيسية لحبشت كان بمقاطعة سحرمّان القديمة"وفي هذا المنطقة يوجد جبلان يحمل أحدهما اسم" حبش " ويحمل الجبل الآخر اسم" جيش" وعلى وجه التحديد على مقربة من لحيّة حوالي سبعين كيلومتراً شمال غربي الحديدة، مابين وادي بيش ووادي سردود. كما يرى روسيني أن مقاطعتي سحرت وهوزين في اقليم تيجري شمال الحبشة تقابلان سحرتان وهوزن في اليمن .
ويفترض روسيني أن بعض هؤلاء الحبشت كان قد هاجر قبل القرن السادس قبل الميلاد إلى الحبشة حيث قامت على يديه أولاً حضارة مركزها يحا، ثم حضارة أكسوم، ولكن بعضهم بقي في موطنه الأصلي وظل يحتفظ بعلاقات تجارية وسياسية مع النازحين(10).
[ وهكذا أدخل المهاجرون عبر موجاتهم المتتالية منذ ما قبل التاريخ وحتى بداية الألف الأول قبل الميلاد إلى الساحل الافريقي من البحر الأحمر، لغتهم، وفن البناء بالحجر، والقراءة والكتابة وكانوا أول من أدخل الزراعة، ومن هناك توغلوا إلى عمق القارة الافريقية وجهاتها المتعددة.
أما المهاجرون من اليمن فلم يكونوا بدواً رحلاً، بل كانوا قوماً مزارعين مستقرين وأدخلوا إلى البلاد استعمال المعادن وأسلحة لم يسمع بمثلها قبل قدومهم وحيواناتٍ مدجّنة كالجمل والحصان والأغنام ومحاصيل وأساليب زراعية جديدة ونظماً راقية في الري والفلاحة وحلَّت من الناحية الأناسية المعرفية نظم المجتمع الأبوي والتنظيم الاقليمي والملكية الجماعية بدلاً من منظومة المجتمع الأمومي. يضاف إلى ذلك نظام الزراعة بالمصاطب على سفوح الجبال والسدود.
ومما لاشك فيه أن العرب باصطحابهم المحراث- الذي لم يكن معروفاً في افريقيا السوداء كان هبة قيمة من هؤلاء الوافدين العرب كما اكتشفت البعثة الألمانية سنة 1905 في حفرياتها قرب أكسوم مجموعة كبيرة من الآثار هي عبارة عن عدد من الأعمدة والمسلاّت ليس منها سوى واحدة قائمة والباقي على الأرض ويبلغ طول المسلة القائمة 27م. ويبدو أن هذه المسلات كانت لأغراض دينية حينما كان السكان يعبدون الشمس وكان القرص في أعلى المسلّة- يمثل قرصها- وهو يرسل أشعة إلى جميع الجهات. كما عثر عام 1953-1954 في أزبي ديرا في أقصى شرق هضبة تتجري على تمثال حجري لملك يرتدي رداءً ثميناً مزيناً، وهو جالس على كرسي، وعند قدم التمثال كتابة بالسبئية. كما اكتشف في مدينة أفا "Ava"/تحا/ حالياً" معبد للاله شمس. ويبدو أن تحاكانت المدينة الرئيسية في المملكة التي سبقت مملكة اكسوم. واكتشفت فيها في السنوات الأخيرة أوانٍ فخارية جيدة الصنع وقناديل ومصنوعات من البرونز وحراب وفؤوس ومناجل وبعض الأختام، وأقدم المباني التي عثر على بقايا مهمة منها في هضبة الحبشة شديد الشبه ليس فقط مع أطلال المباني في جنوب الجزيرة العربية بل مع مباني العصر في تلك المنطقة ولاغرابة في ذلك إذ أنها معابد أقامها القاطنون العرب من جنوب الجزيرة العربية للالهة التي كانوا يعبدونها. وأقدم هذه المعابد معروف في يحا جنوب شرق عدوة. وهو مبني من كتل صخرية كبيرة يشبه مباني مأرب أما المعبد الآخر المهم وهو أقدم من سابقه بكثير فيعرف باسم ميلازو ويتبين طابعه الديني من هدايا النذور ومعظمها تماثيل صغيرة لماشية. بينما تدل اللوحات الحجرية المنقوشة على أن المعبد كان مكرساً للاله القمر] (12) ومن المعروف دور موقع الإله قمر " سين" كأقدم إله في المنظومة الثيولوجية العربية ليس فقط في جنوب الجزيرة العربية،كما سنرى لاحقاً، بل في عموم أصقاع الوطن العربي. ومنطقة ميلازو المذكورة غنية بالتماثيل التي تعود إلى فترة جنوب الجزيرة العربية. فثمة تمثال صغير لرجلٍ يرتدي عباءة فضفاضة وعلى الجانب الأيمن من القاعدة يرد اسم علم مذكور مكتوب بالسبئية. وهناك تمثال صغير لامرأة جالسة وعلى القاعدة نقش اسم من جنوب الجزيرة العربية " كنعان" ولهذا الاسم أهمية خاصة تاريخية وأنتروبولوجية معرفية من حيث الحركة الديموجغرافية لهذا الاسم باتجاه الخليج العربي، من ثم لاحقاً باتجاه بلاد الشام، ومن هناك باتجاه الساحل الشمالي لافريقيا.
" كما عثر على كثير من مذابح حرق البخور، ومعظمها ينتمي إلى الأنماط المعروفة في جنوب الجزيرة العربية. وتشير العلامات على هذه المذابح إلى آلهة جنوب الجزيرة: هلال فوقه قرص" (13).
وهكذا نستنتج وبما لايدع مجالاً للشك بعد كل تلك الذخيرة من الوثائق أن الوحدة الأناسية بشكليها التاريخي والجغرافي " وسنأتي لاحقاً على شكلها اللغوي والثيولوجي والديني" بين شبه الجزيرة العربية والساحل الافريقي من البحر الأحمر تشكل البرهان الأكيد على أن أحد المنافذ الاساسية للهجرات التالية باتجاه وادي النيل كان من ناحية باب المندب، وهو مايتمم ما أتينا عليه سابقاً من الدور المؤسس لوادي الخسيف وامتداده في جنوب الجزيرة العربية قبل تشكل الممر المائي في باب المندب وبعده، في التطور الأناسي التالي للإثنية المعرفية " وليس العرقية العربية كمطلقٍ أكيد في انبعاث الحداثات التالية عبر مراحل الباليوليث والنيوليت وحتى الحضارات الجليلة.
وبالانطلاق شمالاً نحو السودان/ الجزء الجنوبي من وادي النيل/ نلاحظ وبنفس المعطيات السابقة التي تحدثنا من خلالها حول الوحدة الاناسية الجغرافية- التاريخية للساحل الافريقي المقابل للساحل الاسيوي من ضفتي البحر الأحمر، نلاحظ بأن سكان السودان يمثلون خليطاً أيضاً يغلب عليه أؤلئك الذين وفدوا من جنوب الجزيرة العربية، من جانب، ومن الجانب الآخر أولئك الذين وفدوا عليه من الصحراء العربية الكبرى، بعد جملة التغيرات البيئية والجغرافية، حيث جفت الصحراوات العربية والليبية، وتجف كذلك تلك المستنقعات الشاسعة من مياه النيل ويتمدد- بشكل أفضل - مجراه ويصبح من الممكن زراعة أرضه واستغلال مياه النهر في الاستنبات، ويتدفق على الوادي سكان الصحراوين المهاجرين طلباً لمكان أنسب للحياة والاستقرار. فالتشكيل السكاني" الديموغرافي" الأول لما عرف بعد ذلك باسم " المصريين" في اساسه مرتكز على مهاجرين من شرق الوادي وغربه. وكان من الطبيعي أن يحمل القادمون إلى الوادي ثقافتهم ودياناتهم وأن تكون هذه الثقافة، بما فيها الدين، الأساس الذي بنيت عليه الحضارة المصرية(14).
ولقد كان من المستحيل ذلك، قبل انتهاء المراحل المتأخرة من العصر الجليدي الأخير، حيث لم يكن مجرى النهر قد أصبح قابلاً للحياة المستقرة، كما أن الصحراوين العربية والليبية كانتا قابلتين للحياة.
إذن تداخلت معنا ثلاثة شروط مترابطة فيما بينها:
1- الجفاف العظيم الذي حلَّ بالصحراء في شبه الجزيرة العربية، والصحراء العربية الليبية الكبرى وهذا ما كان قائماً في السنين القريبة من العصر الميزوليتي كما بينا ذلك في الفصل الأول من هذا الكتاب، حيث تؤكد كل المكتشفات " كما أسلفنا" على أنها كانت مناطق قريبة من البيئة المدارية.
2- جفاف المستنقعات التي كانت تغطي كل وادي النيل، والتي كان يستحيل بوجودها، التوضع الاستنباتي المستقر.
3- حركية الهجرات التالية للعامل الأول مما دفع تلك الكتل من الشعب للانطلاق بحثاً عن مواقع للحياة أفضل قابلة للاستقرار ولاستنبات تلك المكتسبات الثقافية والتقنية في مواقع أفضل.
وإذا كان ما أكدناه وأثبتاه في بداية هذا الفصل يشكل الخزان البشري في جناحه الشرقي لوادي النيل فهذا لايمنع أيضاً من انبثاق الخزان الغربي باتجاه الشرق والشمال نحو الساحل المتوسطي.الأول وشكله تراكم الهجرات المغرقة في القدم، أو التواجد المتوازي المتطابق التاريخي الأناسي بين جنوب الجزيرة العربية والمنطقة الممتدة من القرن الافريقي وحتى أبعد نقطة من الساحل الأريتيري على البحر الأحمر مع تمركز هام في هضبة الحبشة ودفعته تلك التغيرات المناخية التالية إلى الاتجاه نحو وادي النيل." وهذه الوضعية تكتسب صيغة أكثر وضوحاً وتدعيماً، حينما نتبين التكوين اللغوي الرئيسي الذي هيمن في السودان القديم( والوسيط والحديث بمزيد من الوضوح) فهذا التكوين كان أصلاً وفرعاً من جذور ( من شبه الجزيرة العربية) لغوية، تبلورت هناك أكثر فأكثر باتجاه اللهجة أو اللغة " العربية". ويمكننا أن نورد مثالاً على ذلك بعض المفردات التي نواجهها في السودان/ المشابهة لما لمسناه في الساحل الاريتيري والهضبة الحبشية/ تلك هي:/ ابريم.. أم بقول درمان- أبو هرار- أم شنقة- أبو خراز- أبو دليق- بلل -بربر -باري- تنزه- الثيب- جبل تعلى- جنس- جبل شنقول- جبل الداير- حلفا- حنك- صلة تركبان- خندق- دبور- ور- ونقلة- وبة -ديكة- دارة - سواكن- سبوع- سمنة- سكوت - سبت- شكا- صلب- صنم- عمده- فرص- كلكل- كلابشة- كوبان- كاكا- كتم- واو"
تلك المعطيات، وأخرى عديدة تاريخية واقتصادية وثقافية، تسمح لنا بأن نوسع دائرة بحثنا، بحيث تبرز السودان- أي معظم الشطر الجنوبي من وادي النيل- بصفتها أحد مظاهر المجتمعات الشرقية العربية القديمة. بل إن وادي النيل هنا، يمثل في شطريه، مستوى اقتصادياً ولغوياً وثقافياً متكاملاً بصورة أساسية، وذلك ضمن الوحدة التاريخية الاثنوغرافية والاثنولوجية للشعوب العربية(15).
" وإذا كان من المسلم به أن أسماء الأماكن واسماء الأشخاص إذا وجدت متفقة بين اقليمين في القديم فإنه برهان على وحدة هذين الاقليمين، فإن دراسة أسماء الأماكن والمواقع واسماء الأشخاص بين أقطار الوطن العربي تبين بشكل لايقبل النقض هذه الوحدة. بل إن دراسة عن أسماء القبائل الليبية القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد أثبتت بالقطع صلتها بقبائل عربية موازية لها، كما بنيت عن التسمية العربية لهذه القبائل بلغةٍ نفهمها اليوم.. ونظرة واحدة إلى خارطة الشمال الافريقي مثلاً ترينا كيف أن قبيلة ما- كالمشوش- نجدها في عصر في ما يسمى تونس اليوم، ثم نلقاها في الصحراء الشرقية من ليبيا بعد مدة من الزمان. وهذا ما هو حادث حتى يومنا الذي نحياه، إذ نجد قبيلة - كالفرجان مثلاً - في وسط الجماهيرية وهي ذاتها في موريتانية ونعثر على العبيدات في شرق الجماهيرية وهي كذلك في الأردن، والعنزة موجودة في ليبيا والكويت أو شمال الجزيرة (16) وحتى في كل بلاد الشام.
وإذا كان باحث ما يتحدث عن طريق واحد للوصول إلى وادي النيل، كما يفعل كمال حسين مثلاً" بأن المصريين والسودانيين من أصل واحد، وأنهم جاءوا إلى وادي النيل من بلاد العرب ( الجزيرة العربية) عن طريق الصومال على ما تدل عليه البحوث والاستقراءات (17) أو كما يضيف باحث آخر بوجود الهجرة الليبية العظيمة (18) إلى وادي النيل من الناحية الغربية بالاضافة إلى الطريق الأولى، فإن فريقاً رابعاً، وهو محق أيضاً في أبحاثه واستناداته على وجود طريق رابع للحركية الجولانية الديموغرافية عبر سيناء، إلاَّ أن هناك باحثين آخرين يؤكدون وجود حركة جولانية انطلقت في أزمنة ما قبل التاريخ ومطلع الألف الرابع من وادي النيل باتجاه الشرق، كما يفعل الباحث القدير الدكتور سيد القمني في معظم أبحاثه. إلاَّ أن الجميع متفق على وجود حركية دائمة لم تتوقف بين الجماعات البشرية للشعب العربي وعبر مواقع تواجده كلها.
وإذا كان من المسلم به أن الجزيرة العربية كانت" خزاناً بشرياً" كما هو الاستعمال الشائع يدفع بموجات الهجرة إلى مختلف الجهات في حقب متطاولة من التاريخ، فإن هذه الجزيرة ذاتها كانت " تستقبل" المهاجرين إليها من الشمال ومن الجنوب، بل ومن الغرب أيضاً. فالهجرات بين مناطق ما نعرفه اليوم بالوطن العربي كانت متبادلة باستمرار ولم تكن تنبع من منبع واحد، وذلك بحسب الظروف والعوامل البيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المختلفة. وهذا يعني من الناحية الأناسية التاريخية أن قاطني هذا الموقع الجغرافي هم مجموعة بشرية واحدة نشأت حتماً في مكانٍ ما، جماعة صغيرة ثم نمت وتفرعت وكثرت. أو أنها مجموعات متناثرة كونتها نفس الشروط والظروف وتطابق المعطيات البيئية والاشراطات الأناسية بحيث تطورت بشكل متطابق ومتوازٍ من أقصى الوطن العربي شرقاً إلى أقصاه غرباً وعلى مسار عشرات الألوف من السنين بحيث أنتج وحدة أناسية وثقافية ولغوية ومعرفية واحدة/ كما أثبتنا ذلك في الفصل الأول/..." ومهما كان الأمر في المكان الذي نشأت فيه هذه الجماعة، ما بين الجزيرة العربية، وأرض الرافدين، والشمال الافريقي، وشرق أفريقيا أو وادي النيل" (19) أو أنها تطورت بشكل متطابق ومتوازٍ لتجد نفسها وفي المراحل المتأخرة من زمن ما قبل التاريخ تشكل وحدة أناسية واحدة" إلاَّ أنه من الثابت- بشكل قاطع- أن ثمة تشابهاً في المخلفات الأثرية الأولى ما بين أماكن ومواطن تبدو متباعدة مما يدل على امتزاج حضاري بدرجات متفاوتة تؤيده الكشوفات الأثرية يوماًبعد يوم، فحضارة وادي النيل في تكويناتها الأولى تؤكد ارتباطاً وثيقاً بينها وبين حضارة الصحراء الليبية من جهة وحضارة الجزيرة من جهة أخرى. والآثار الفخارية للانسان الحجري القديم في فلسطين " بلاد الشام" تبرز تشابهاً واضحاً مع نفس ذلك العصر في الجبل الأخضر، وهذا يدل على نوع وثيق من التواصل الحضاري(20).
أما ما يخص المغرب العربي فلنا في ذلك وقفة كشبيهتها التي وقفناها مع الساحل الافريقي من البحر الأحمر وحتى القرن الافريقي / بداية هذا الفصل/ إذ لابد من التمييز بين ثلاث معطيات هامة تشكل التسلسل التاريخي للهجرات العربية إلى الشمال الافريقي من المغرب العربي، وهي: الهجرات الأولى في مراحل ما قبل التاريخ وبداية الألف الثالث والتي شكلت الهجرات الأمازيغية محورها الهام. وهجرات الفينيقيين في نهاية الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد، من ثم المراحل الهامة من انتشار الرسالة الاسلامية.
فلقد أكدنا في الفصل الأول التطور المتطابق والموازي في البنية الاناسية المعرفية لحضارة المغرب العربي الماقبل تاريخية مع مثيلاتها في وادي النيل وبلاد الشام والجزيرة.ونكون بذلك وضمن المنهج الذي نتبعه قد حددنا واحداً من الجذور الأناسية التاريخية البعيدة لمنطقة عربية هامة راهنة. وإذا كنا سنخصص لاحقاً حقلاً خاصاً بالتاريخية الأناسية اللغوية للوطن العربي إلاَّ أننا لابد أن نعرّج في مقدمة طرحنا للموضوع باعتبار " البربر" كانوا يتكلمون لهجات ليبية يمتد أصلها البعيد إلى أصل اللهجات " اللغة" العربية في الشرق ." وهذا يشير إلى أننا غدونا في موضع تقصي الأصول البعيدة " للبربر" وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من أن نأتي على الواقعة التاريخية التالية والتي أجمع المؤرخون على صحتها. تلك هي أن كلمة " بربري" لاتنطوي على أي مدلول عنصري أو لغوي أو ثقافي. إذ لم يطلق البربر على أنفسهم هذا الاسم، بل أخذوه من دون أن يروموا استعماله عن الرومان الذين كانوا يعتبرونهم أجانب عن حضارتهم وينعتونهم بالهمج Barbri ومنه استعمل العرب كلمة برابر وبرابرة-" مفرده بربري"/"(21).
ويذكر عبد الرحمن بن محمد الجيلاني في تاريخ الجزائر العام- الجزء الأول بيروت 1965 ص 48 ما يلي حول لفظ بربري: إنما هو وضعي يراد به عند اليونان " صوت الالثغ" وهو كل إنسان أجنبي عنهم لايتكلم بلغتهم، ومن ثمة أطلقه اليونان أنفسهم على سكان هذا الوطن وعلى غيرهم ممن هو ليس يونانياً كأمة الطاليان فإنها كانت تسمى عندهم " برباريا" ويتابع بأن اللغة البربرية هي كغيرها من سائر لغات البشر ذات لهجات وصيغ مختلفة كما هو مشاهد من أهلها إلى الآن بين سكان القطر الجزائري والمراكشي، فهناك لهجة خاصة بزواة- بلاد القبائل- تختلف في بعض مصادرها عن لغة الشاوية وبني مصار " مزاب" وبني صالح بجبل البليدة والشلوح والتوارك..... الخ ولايزال اسم ( تماشغت )أو ( تمازغت) يطلق على جميعها بمعنى اللغة المازيقية. وكلها ترجع إلى جذر واحد يمت بصلة إلى اللغت العربية" الجزيرية" وعثر الباحثون من علماء الآثار على نقوش مكتوبة بالخط الحميري على صخور من دوباعه وثمود ومشهد ووادي ثقب هي قريبة الشبه جداً من نقوش الخط البربري الموجود بناحية الهغار من القطر الجزائري. وفي موقع آخر يكتب المؤلف تسمية نهر النيل مايلي:" كما تشهد لنا بذلك أيضاً كلمة " نيل" نفسها فهي تسمية بربرية اسوبية لامحالة سمي بها مجرى نهر مصر المشهور." ويذكر المؤلف في موقع آخر بحادثة شهيرة بأنهم " الأمازيغ" كما جاء في تصريحهم أمام الخليفة عمر بن الخطاب حينما ذهب إليه الوفد بعد فتح مصر فانتسبوا إلى مازيغ، وأنهم أصحاب البلاد الواقعة بين خليج " البحر الأحمر" والبحر المحيط ولم يقولوا له أنهم بربر"(22).
"ولعل اللغة الليبية تعتبر من أهم مجالات المقارنة. فهي أم اللغة" البربرية" الأمازيغية ( تسمى الجبالية) والحكم في هذه الحالة لايمكن أن يكون إلاَّ لما يسمى" النقوش اللليبية " أو اللوبية Lybigue القديمة. ودراسة هذه النقوش مفيدة جداً، فهي لم تتعرَّب حسب منطقة بعض القوم !! وبالتالي فهي صافية خالصة. نظرة واحدة إلى أيٍّ منها توضح عروبية لغتها تماماً.
وحجر" مسنسن" الذي يتكون من ضربين من الكتابة واللغة " البونيتية" والليبية" ليس إلاَّ حجراً يحوي في لغتيه مفردات عربية " أو عروبية" لايرقى إليها الشك. وهكذا بقية النقوش التي كشفت في مايعرف اليوم باسم : ليبيا، تونس، الجزائر، والمغرب وما سوف يكتشف من نقوش يجب الاهتمام به اهتماماً جدياً وعرضها على محك الدراسة والمقارنة لاثبات عروبتها، وبالتالي دحض أي فكرة تشكيكية في عروبة الشمال الافريقي كله منذ عصور التاريخ الأولى وما قبلها، بما يعني ذلك وحدته الاثنية والثقافية واللغوية مع بقية أهل الوطن العربي القديم، وأنه لم يتعرب" فقط بعد الاسلام كما هي المقولة الخاطئة الشائعة. فتحليل الاسماء الليبية القديمة لقادة وردت أسماؤهم في النقوش المصرية من عصر " نارلر" وحتى عصر " مرنبتاح" و" رمسيس الثالث" يؤكد حيث تترجم هذه الاسماء بأن معانيها عربية خالصة العروبة. وهذا ما دفع استاذاً جليلاً مثل العالم الألماني " برغش" منذ أكثر من مائة عام إلى القول بأن أصول الاسرة الثانية والعشرين اللليبية " أسرة شيشنق" التي حكمت مصر أوائل الألف قبل الميلاد إلى ما يقرب من مائتي عام- هذه الاصول كانت" آشورية " لأن أسماء فراعينها تدل على ذلك. هذا أمر قد يبدو مدهشاً لكن التفسير المنطقي الوحيد المقبول ليس بالضرورة القول بأن فراعين الاسرة الثانية والعشرين جاؤوا مباشرةً من الرافدين، وإنما القول بوحدة أصل الليبيين والاشوريين وتمتعهم بنفس العناصر البنائية للتكوين الأناسي المعرفي(23).
أما كيف بلغ العروبيون شمال أفريقيا، فهذا تم، على سبيل الترجيح، عن طريق أحد أمرين، أو عن طريقهما معاً: الهجرات البشرية العربية باتجاه الهلال الخصيب ووادي النيل وشمال افريقيا، والتأثر والتأثير الأناسي المعرفي بعوامله المتعددة " اللغوية والتقنية والثقافية والدينية وغيرها" بشكل مباشر وغير مباشر. فبالنسبة إلى هذا الأمر الآخير، لايستبعد أن تكون اللغة الجبالية " البربرية"( أخت لغة قدماء المصريين والليبيين وخصوصاً إذا ما اعتمدنا مقالة من يقول إن قدماء المصريين هم من سلالة سكان الجزائر ومراكش )(24).
ويبدو من الضرورة إعادة التذكير بوجهة نظر من قالوا بأن افريقيا هي موطن العروبيين الاصلي ضمن القراءة الانتربولوجية لتطور الانسان. وقد قال بذلك المستشرق نولوكد ومن بعده بارتون. وقد قال نولوكد برأيه ذلك انطلاقاً من التشابه الكبير بين لهجتي اللغة الواحدة غرب وشرق البحر الأحمر من التراب العربي." وبالتالي فإن الحديث عن شمال افريقي عربي لايبدأ مع دخول الفينيقيين مع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد وإنما يعود إلى أزمنة أقدم بكثير، ولايختلف في عراقة قدمه الزمنية من الناحية الأناسية عن بقية أهله في المواقع الأخرى من أرض العرب،" وهذا يجعلنا ننظر إلى ذلك الجزء من الشعب العروبي الذي أطلق عليه لفظ " بربري" على أنه ينتمي إلى عائلة الشعب العربي.
أما المرحلة التالية فهي التي تخص الهجرات الفينيقية والتي تمتد حركيتهم من الناحية الزمنية إلى مراحل ما قبل التاريخ، حيث كان موطنهم الاصلي في جنوب الجزيرة العربية وفي منطقة اليمن تحديداً، ولنفس الأسباب التي دفعت بالهجرات العروبية إلى مواقع أخرى، هاجر الفينيقيون إلى منطقة الخليج العربي واستوطنوا في / وقرب جزيرة الديلم" البحرين حالياً " ويعتقد العالم راكوزين أن الفينيقيين.الذين سكنوا الساحل الشامي كانوا قد قدموا من البحرين وقد تفرقوا إلى قبائل وتوزعوا في أقسام عديدة من سوريا وأطلق على أحد فروعهم اسم بنط أو بونا PUNE PUNT ودعاهم الإغريق بالفينيقيين والبونيون" الفينيقييون" كانوا شعباً تجارياً وقد هاجروا إلى الاماكن التي تزدهر فيها التجارة. كما سكنوا شمال افريقيا ومنهم القرطاجيون. على أن أهم فرع لهم سكن في بلاد اليمن وحول مضيق باب المندب ثم انتقل إلى السواحل الافريقية الشرقية واستوطن بلاد الصومال وسيطر على البحر الهندي والبحر الاحمر، ويعتقد المؤرخون بأن البونيين قبيلة من الكنعانيين استوطنت بلاد سوريا منذ أقدم الأزمان وما زالوا. فتذكر أن الملك سهورع من السلالة الخامسة كان يرسل السفن في البحر الأحمر إلى بلاد البنط وهي بلاد اليمن وسواحل الصومال وكانت هذه البلاد تُعرف ببلاد البخور والطيب. ولم تقتصر أهمية بلاد النبط على تصدير البخور بل كانت في تصدير الأشجار كذلك تغرسها أمام المعابد، كمعبد دير البحري. وقد صورت على جدرانه طريقة نقل هذه الأشجار من بلاد الصومال عبر البحر الأحمر، وظهر أمير بلاد الصومال وأميرته وهما يحييان بعثة الملكة حنشيسوت البحرية التي أرسلتها لاستقدام الاشجار والبخور، وقد صور الأمير والأميرة بهيأتهما الحقيقية حيث يظهر عليهما تأثير الجنس الأسود بوضوح، وهناك صلة وثيقة بين سكان النبط وبين سكان بلاد وادي النيل القدماء (25).
ويرى المؤرخ هيرودوت أن موطن الفينيقيين الأصلي هو االبحر الاريتيري(26). أما مايؤكد هجرتهم باتجاه الخليج العربي فهو وجود نفس أسماء المواقع التي أطلقها الفينيقيون حيثما حلّوا فاسترابون يشير إلى أن سكان الخليج العربي أكدوا أنهم يسمون عندهم، باسم صيدا، صور، وأرواد، وأراد، وأن المعابد عندهم تشبه معابد الفينيقيين (27) والمؤرخ جوستان يصف الشعب الفينيقي بأنه مكوّن من الفينيقيين الذين نزحوا من بلادهم الاصلية حين أفزعتهم الزلازل.
وقد نزلوا أولاً على ضفاف الخليج العربي ثم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وهنا بنوا مدينة سموها صيدا بسبب وفرة الصيد من السمك، والفينيقيون يسمون السمك صيدا (28).
وقد أشارت رسائل تل العمارنة إلى سكان الساحل الفينيقي باسم كناهي أو كناهوَن " كنعان"(Kinahn) وكلمة كنعان تعني في اللغة العربية القديمة" انخفض " وهي مشتقة من فعل " كنع" ويقصد بها الأرض المنخفضة هنا حيث انخفاض الساحل الفينيقي بالنسبة لجبال الساحل الشامي التي هي امتداد طبيعي لجبال طوروس. وبالتالي فالتسمية هنا هي عبارة عن مصطلح جغرافي.
لذلك فإن التسمية كنعان أطلقت على الفينيقيين العرب في مرحلة من مراحل توضعهم الجغرافي تاريخياً على الساحل الشامي. ويقول بونفانت:" لقد اشتق اسم فينيقي من اليونانية Phoinix، أي أحمر أرجواني، ليشير إلى صناعة الأرجوان التي اشتهر بها الفينيقيون وبعد أن أطلق اليونان هذا الاسم على الكنعانيين الذين تاجروا معهم فإن كلمة فينيقي أصبحت حوالي 1200 ق.م مرادفة لكنعاني (29)، كما أشار بعض المؤرخين والنسّابين والأخباريين العرب إلى أن بعض العرب العماليق وصلوا إلى بلاد الشام، وكان منهم الجبابرة الذين دعوا بالكنعانيين(30). ومن الملفت للانتباه أن فينيكس تعني أيضاً طائر العنقاء، الطائر الأسطوري الذي يخرج من قلب الرماد، ونظراً لأهمية البخور واللبان في المراحل الزمنية المغرقة في القدم قبل التاريخ وحتى مراحل الحضارات العربية الجليلة، كان لابد من تكوين بنية مخيالية اسطورية قادرة علىحماية هذا المصدر الحياتي، فيورد بعض المؤرخين القدماء/ هيرودوت مثلاً في ج3/ أن طائر الفينيق كان يظهر عندما تمتد أي يد آثمة بهدف العبث أوسرقة البخور أو اللبان من موقع زراعته أو جمعه في جنوب الجزيرة العربية.
وبفضل النتائج التي قدمتها بحوث سفينة الابحاث الميثيور الالمانية فإنَّ " أرضاً يابسة في قاع الخليج العربي تشكل امتدادا طبيعياً للبر العراقي تماماً مثلما يشكل الاخير الامتداد الارضي للحوضة الأولى السورية.ومن المرجح جداً أن ضفاف مجرى النهر الاصلي في قاع الخليج كانت موطناً لجماعات من صيادي الباليوليثي، وأن تكون الأراضي الرسوبية الخصبة المجاورة لها قد سكنت من قبل مزارعين- صيادين يشابهون في عيشهم وفي تطورهم نمط تطور جيرانهم النطوفيين " نسبة إلى وادي النطوف قرب أريحا/ مدينة القمر/ وتحدثنا باسهاب عن هذه الحضارات في الفصل السابق" سكان قرى المريبط وأبي هريرة وبقراص في حوض الفرات الأعلى. وقد يكتشف علم الاثار الغارقة تحت المياه فصلاً جديداً وهاماً من تاريخ منطقة متممة لما بين النهرين. إذ من المحتمل أن تكون مراكز الاستيطان الباكرة في الأراضي المنخفضة التي لانعرف حالياً اسمها والتي اقترح لتسميتها اصطلاح منطقة ما قبل الخليج كانت جزءاً من ثقافة كبيرة معاصرة انتشرت مراكزها في الجنوب الرافدي وجواره قبل الخليج Pre-Gulf Rejion قد شكلت المرحلة التحضيرية التي ستمهد لنشوء حضارات مدن الجنوب الرافدي المزدهرة اعتباراً من الألف الرابع قبل الميلاد. وهنالك احتمال آخر لايقل رجحاناً في أن منطقة ما قبل الخليج كانت جزءاً من ثقافة كبيرة معاصرة انتشرت مراكزها في الجنوب الرافدي وجواره قبل أن تجبر مياه البحر الصاعدة أهلها على الرحيل تدريجياً إلى مواطن جديدة هذا الاحتمال يؤكده عثور الآثاريين على فخاريات العبيد في /32/ موقعاً أثرياً على شواطئ شبه الجزيرة العربية الشرقية مقابل جزيرة البحرين، كما وعلى مبعدة /65كم/ إلى الداخل (31) " بحيث نستطيع أن نتخيل الآن ما كان عليه واقع بيئة منطقة ما قبل الخليج العربي قبل بداية العصر الدفيء الحديث، باعتبارها كانت تشكل منطقة متكاملة متجانسة مع بنية الجزيرة العربية الجغرافية وحتى اليمن والساحل الشرقي للبحر الأحمر. بحيث شكلت حركة الجولان لأجداد العرب القدماء في بقاع المنطقة نمطاً واحداً للحياة، مما يستدعي بالضرورة ربط التطور الموازي لتواجد الفينيقيين "البونتيين" ومنذ المراحل الماقبل تاريخية في تلك المنطقة. بحيث تبدو عملية الانتقال والتجوال في هذه الحالة مقنعة تماماً، نظراً للمساحة الواسعة التي تمتد على أكبر رقعة من مساحة الوطن العربي الحالي، تواجدت آثارهم فيها. فمع من نقف نحن على سبيل المثال؟ مع مدرسة فرانكفورت التي أكدّت تواجدهم في منطقة الماقبل خليج، أم غيرها من الباحثين الذين يطلقون على مناطق ارتيريا والصومال بلاد الفينيقيين " البونت"؟ أم هيرودوت الذي يربطهم بجنوب الجزيرة في اليمن؟ أم بعض الباحثين المعاصرين الذي يؤسسهم تماماً في بلاد الشام ووادي النيل منذ مراحل ما قبل التاريخ؟
يبدو أن الجميع متفقٌ على أن هذه الجماعات البشرية قطنت وتوالدت وانتشرت واستنبتت واخترعت وابتكرت وتطورت بشكل متوازٍ ومتطابق من عصر لاقط الثمار ورجل الصيد إلى مرحلة التدجين الحيواني والنباتي في مرحلة كان فيها شط العرب كنهر يمتد حتى مضيق هرمز حيث كان مصب نهري دجلة والفرات( كل الدراسات تشير إلى ملامح التدجين الموازية والمطابقة للمرحلة النطوفية والصفاقصية والسبيلية والعُمانية وهذا ماتؤكده المكتشفات والمستحاثات المأخوذة من قاع الخليج وعلى ضفتي النهر الذي كان)." وفي الوقت الذي كانت منطقة الخليج العربي تحت المياه تتألف من مناطق خصبة ويجري في قرارها دجلة والفرات، ووادي الرمّة، بعد أن يتحد بوادي الدواسر، ومجموعة غيرها من الأنهار والجداول الأخرى، كانت منطقة شبه جزيرة العرب منطقة أمطار موزعة على جميع فصول السنة وبالتالي فقد كانت الوديان أنهاراً غزيرة دائمة الجريان. ومن المعروف أن منطقة كنعان، وجميع المنطقة الممتدة من عدن في أقصى جنوب اليمن إلى حدود بلاد الشام على سواحل البحر الأحمر الشمالية إنما كانت من أخصب بقاع الأرض"(32).
ومع تقدم مرحلة العصر الدفيء، وذوبان كتل الجليد الاسطورية الضخمة التي تجثم على المنطقة الممتدة من أواسط أوروبا إلى القطب المتجمد الشمالي، أخذت مياه البحر في التقدم والارتفاع تدريجياً، كما بدأت كميات الامطار التي تتساقط على المنطقة بالتراجع، وأخذ الجفاف يتقدم تدريجياً ليقلل من تجمعات المياه الحلوة ومن غزارة الأنهار ذات الينابيع المحلية، كما زادت في الوقت نفسه، غزارة كل من دجلة والفرات اللذين تنحدر مياههما من هضبة أرمينا في أقصى الشمال. ومع اقتراب عصر الجليد من نهايته كان وادي الرمة يشكل شريان الاتصال المباشر ما بين منطقة الخليج التي أخذت عملية انفجارها بمياه البحر لتصير إلى ما هي عليه اليوم وبين المنطقة الزراعية الخصيبة في غربي شبه الجزيرة العربية على سواحل البحر الأحمر الشرقية(33) مما أدى إلى الهجرات العروبية المعروفة منذ بداية الألف الرابع قبل الميلاد بحيث تبدو كل الهجرات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركية الفينيقيين " الكنعانيين"/ البونيتيه/ إن لم تتطابق معها. ومن المعروف أن نفس الاشتراطات تتطابق على وادي النيل الذي تحدثنا عن التغيرات التي حصلت عليه سابقاً. ويمكننا بسهولة أن نربطها مع الهجرات التي حصلت إلى الشمال الافريقي في الألف الرابع قبل الميلاد. فالنجاح العظيم الذي حققه الفينيقيون في تلك المناطق خلال نشاطهم في الشمال الافريقي يشير إلى وجود طبقة أقدم من المستوطنين العروبيين في شمال افريقيا..وهناك ذكريات غامضة لمرويات تجعل العروبيين القدماء موجودين في مناطق غرب البحر المتوسط، واحتفظت بها الكتابات الكلاسيكية والعربية. إن هذا القول ينسجم مع قواعد العلم والمنطق، لأنه يدحض فكرة إمكان قيام شعب أو ظاهرة على فراغ. فلولا وجود الاساس العربي منذ أقدم الأزمنة في تلك الاصقاع- وهذا ما أكدته الكتابات العربية القديمة جميعاً- لما تمكن الفينيقيون من أن يوطدوا أقدامهم ويرسخوا وجودهم فيها، كما أنه كان من المستحيل أن تثبت عروبة تلك المنطقة إلاَّ كما ثبتت " عروبة" اسبانيا إبان الدولة العربية الاموية ثم العباسية فيما بعد (34). وهكذا فإن الفينيقيين ليسوا إلاَّ جزءاً من العرب الذين سكنوا الساحل الشامي وإن وجودهم في الشمال الافريقي تحديداً يعود إلى زمن موغل في القدم منذ حوالي الألف الخامس قبل الميلاد ويلي مباشرة الوجود العربي في حوض النيل أو تزامن معه كما دلت كل المكتشفات الأثرية(35).
نستخلص من ذلك أن بعض الباحثين يطلق على الساحل الشرقي للبحر الأحمر بلاد كنعان، كما يطلق بعضهم على الساحل الشامي. مهما كان الأمر فمن الواضح تماماً أن التسمية باعتبارها ذات بعد جغرافي (تضاريسي) كاحتمال أول فهذا يعني أن الفينيقيين هم من أهل هذه البلاد، حتى ولو كان الاحتمال الثاني هو الأرجح بحيث ارتبطت التسمية بأسماء أخرى.
أما النتيجة الثانية و

أما النتيجة الثانية والتي يجمع عليها كل الباحثين هو تواجدهم في المنطقة التي أسميناها الماقبل الخليج العربي بدايةً، ثم الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب بعد تشكل الخليج بوضعه الحالي وفي جزيرة البحرين التي شُكِّلت لاحقاً، وهذا لايعني بالضرورة أنهم رحلوا إلى هذه المناطق من جنوب الجزيرة العربية، بل يعني أنهم تواجدوا كاحتمالٍ ثانٍ في المنطقتين معاً، وهذا ماتفسره لنا الأناسة التاريخية التي تعنى بالتطور المتوازن والمتوافق والذي يعني أن شبه الجزيرة العربية كان يشكل واحةً واحدةً مترابطة حتى بدايات الألف الرابع قبل الميلاد.
تُربط كل تلك الأبحاث مع إمكانية الانتقال أو التواجد إلى/ وفي الشمال الافريقي مع بداية الألف الرابع، وهذا ما يفسره من خلال التسميات العديدة التي اتسمت فيها تلك المناطق قبل التواجد الفينيقي المتأخر مع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد/ ليبيا مثلاً وموقعها في الميثولوجيا الفينيقية.
وجود نفس المواقع بتسمياتها على الشاطئ الشرقي لجزيرة العرب وعلى الشاطئ الشامي وعلى الساحل الشمال افريقي يؤكد بأنهم يدركون بأن الانسان هو الذي يصنع المكان، ولاتواجد للمكان بدون الانسان، وأن هذا الانسان يتحرك في مكان هو أهله، بحيث لم يتم الجولان إلاَّ من خلال علاقات سلمية ومودة، في حين كانوا مقاتلين أشداء كما حدث مع الغزوات الغربية. ووجه القرطاجيون كل عنايتهم إلى الأسطول الحربي منذ بداية القرن الخامس ق.م(480) عندما أدركوا بالتأمر الاغريقي الغربي عليهم، فاصطدموا لأول مرة في معركة هيمرا في صقلية بذلك التحالف الذي كان يقوده الطاغية جيلون حاكم مدينة سيراكوزا(36).في حين لم يحدث أي شيء من ذلك القبيل لافي بلاد النيل ولا مع سكان المناطق الداخلية أو الساحلية في الشمال الافريقي فكان اعتمادهم على علاقاتهم الودية/ الطيبة/ مع سكان الداخل جعلهم يحصلون على منتوجات المناطق الداخلية بدون عناء عن طريق هؤلاء السكان (37) بحيث كانت العلاقات كما هي في الدولة الواحدة بين سكان الساحل وسكان الداخل." بينما على العكس من ذلك تماماً كانت سياسة الرومان تعتمد على السيطرة وتهدف إلى تحويل المغرب العربي إلى مستعمرة تخدم الاقتصاد الروماني وحده وتشبع رغبة العسكرية الرومانية. ولذلك نجد أن الرومان كانوا قد نفذوا إلى المناطق الداخلية وبنوا مدناً وقلاعاً عسكرية" (38).
إذن، حتى ولو افترضنا أن الفينيقيين هاجروا بشكل موجة بشرية إلى السواحل العربية الافريقية فهم لم يجدوا صعوبة تذكر لافي التعامل ولا في مراحل بناء المدن والموانئ، ولابعلاقاتهم مع أبناء الداخل، لامن الناحية اللغوية ولا من النواحي الثقافية والعلائقية الأخرى. فحتى لو افترضنا أن السكان السابقين في بلاد المغرب العربي لحضور الفينيقيين لم يكونوا بنفس البناء الأناسي الأثنولوجي، أي لم يكونوا ينتمون لنفس الشعب، فلابد أن نصل إلى نتيجة مفادها أنهم كانوا يحملون نفس المواصفات التواصلية والأناسية، بحيث لم يحدث ما يشير حتى ولا إلى أي خلاف بين الطرفين. وبالتالي لايمكن النظر إلى توضع الفينيقيين في الشمال العربي الافريقي مع " الهجرات" العربية الأولى، والتي أكدنا أنها ذات نفس الأصل الأثنولوجي المعرفي والبناء الأناسي إلاَّ تماماً كما ننظر لعلاقات الأكاديين والبابليين والاشوريين باعتبارهم يشكلون بناء أناسياً معرفياً لشعب واحد بتمظهرات فرعية جزئية يفرضها السياق التاريخي العام للتطور.بحيث يبدو عنصر الاتصال الجغرافي التاريخي قائماً في عمق الزمن المعرفي. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكننا أن نأخذ صور كمدينة بُنيت ( ولا خلاف على أن الفينيقيين هم بناتها) في بداية الألف الثالث قبل الميلاد على الساحل الشرقي لبحر أمور أو" البحر المتوسط" في حين بنوا قرطاجة " القرية الحديثة= أوغاريت الجديدة نسبة إلى أوغاريت الساحل الشرقي" في بداية الألف الأول قبل الميلاد " تم انجاز بنائها عام 840ق.م".
" فالمؤرخ هيرودوت يروي بأنه أثناء زيارته لمدينة صور سنة 450 ق.م أكد له كهنتها بناءها حوالي 2300 سنة قبل زيارته لها. وعلى ذلك يكون بناء مدينة صور قد تم في حوالي 2750 ق.م (39).
ولم تكن علاقات المظاهر الحضارية بأسمائها المختلفة ذات البناء الأناسي المعرفي الواحد مع الساحل الشامي علاقات عدائية إلاَّ بالمفهوم التطوري المعهود في داخل أية دولة واحدة، وما علاقة مدينة صور مع المظاهر السياسية للحضارة العربية الجليلة " البابليين، والمصريين، والاشوريين وغيرهم.." إلاَّنموذجٌ بيّنٌ لعلاقات المدينة القوية في الدولة الواسعة.
أما المرحلة الثالثة والهامة والتي لاتحتاج للوقوف عندها فهي انتشار الرسالة الاسلامية كمظهر معرفيٍّ عظيم من مظاهر العروبة.
وبذلك يبدو التواجد العروبي في المغرب العربي هو الواسم الوحيد والاوحد للهوية الوطنية ليس فقط بعد انتشار الرسالة الاسلامية، أو من خلال ما سبقها بحوالي ألفي عام من خلال الجولان العروبي الفينيقي والصرح العظيم الحضاري الذي انتشر على كل سواحل البحر المتوسط من الشرق إلى المحيط الأطلسي، بل ومن خلال الهجرات العروبية الأولى التي امتدت على مساحة الزمن الواسمة منذ انتهاء العصر الباليوليثي/ انتهاء العصر الجليدي الأخير/ وابتداء الميزوليت، وصولاً إلى الهجرات الثانية. والمتعمق في هذا التاريخ يدرك، أن المغرب العربي لم يكن ولا في يوم من الأيام، بعيداً عن هويته الديمغرافية العروبية، وأعتقد من ناحيتي أن لاحاجة للتذكير بالكثير من المعلومات التي يعرفها الجميع ولايستطيع أن يتغاضى عنها حتى المستشرقون الذين يؤسسون نظراتهم على اشتراطات ايديولوجية تزييفية.
فالفينيقيون بتواجدهم المتواصل، وتواصل حضاراتهم، كانوا يبنون، ويدخلون النشاط أينما تواجدوا ليس فقط على الشواطئ العربية بل وعلى الشوطئ الشمالية للبحر المتوسط، فهم الذين بنوا الموانئ التجارية والمراكز السكنية التي تميزت بحيويتها، واتصلت فيما بينها بشبكة اتصالات بحرية ملاحية راقية امتدت من سواحل الشام الشرقية وكيليكيا والدلتا المصرية والشمال الافريقي باتجاه اليونان وصقلية وقبرص وسردينيا- وأسسوا قادش في اسبانيا" نسبة إلى قادش بلاد الشام" أما قرطاجة ( كرت حديث= القرية الحديثة) فكانت نموذجاً لصور وأوغاريت وتؤكد الأساطير الاغريقية أن " ليبيا" وهذا الاسم الذي أطلق على كل الشمال الأفريقي العربي هي تسمية فينيقية، وهي زوجة برزيدون وأم جينوز.
نستنتج من ذلك، أن التاريخ الأناسي للفينيقيين العرب يمتد بعيداً إلى ما قبل التاريخ على رقعة الوطن العربي كلها من الساحل الشرقي للبحر الأحمر " كنعان1" إلى منطقة اليمن وجنوب الجزيرة إلى الساحل " كنعان 2" إلى دلتا النيل والشمال الافريقي كاملاً حتى بحر الظلمات. وهذا يعني أن الأناسة التاريخية والجغرافية الأناسية للعرب الفينيقيين تشكل وحدة متواصلة متكاملة أما ما قدّمه هؤلاء العرب للبشرية حتى تاريخه ابتداءً من فن الملاحة وتنظيم المدن والموانئ، والتعدين، وغيرها وصولاً إلى أول أبجدية قدموها للبشرية، وهي مازالت حت الآن الاكتشاف الأهم في التاريخ الأناسي كله.
أما في منطقة الشرق العربي فلقد اشترك الأكديون والسومريون في بناء حضارة بلاد النهرين، من ثمَّ انصهرت البُنى الأناسية الحضارية مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وبداية الألف الثاني ليظهر على مسرح الأحداث التكوين الناتج التالي لما يمكن أن نسميه البناء الكنعاني- الأموري فظهرت معالمهم المكملّة للبنية السابقة لهم: بابل في أواسط العراق، وآشور في شماله، وماري أواسط الفرات، وكركيش على حوض الفرات الأعلى ويمحاض في منطقة حلب، وقطنة/ المشرفة/ قرب حمص وجبلا على الساحل، ودان على منابع نهر الأردن، وحاصور في سهل الحولة، ومجدو في شمال فلسطين.. وكلمة آمور الأكادية- السومرية تعني الغرب ( لذلك سمي البحر المتوسط بحر أمورو)، وقد وصف السومريون والأكاديون تلك الحركة الديموغرافية القادمة من البادية الشامية إلى بابل وسومر بالأموريين أو أهل الغرب.
" هذا فيما يتعلق بآمورو، أما فيما يتعلق بكنعان فإنّه أول ماذكر كاسم جغرافي في النص ت.م / 75/ 2367 المكتشف في تل مرديخ/ عبلة / ايبلا، ويعود تاريخه إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ويبدو أن منطقة كنعان التي ذكرت في هذا النص كانت مجاورة لمملكة إيبلا.. ومن المرجح أنها كانت تشمل المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد الشام طبقاً لما ورد في رسائل العمارنة، حيث وصفت السواحل الشامية الواقعة إلى الجنوب من حوض نهر الكبير الجنوبي ببلاد كنعان، ومملكة حاصور في سهل الحولة على أنها من بلاد كنعان وإلى هذه المناطق انتسب الفينيقيون أيضاً.ومهما يكن الأمر فإنه من الواضح أن معظم مناطق بلاد الشام كانت موضعاً للكنعانيين فسميت بأسمهم. هذا من جهة- ومن جهة أخرى فإن الوثائق التي وصلتنا من ماري وبابل وأوغاريت والعمارنة قد كتبت بلغة واحدة هي الكنعانية. لكل هذا اعتقد كثير من العلماء أن القبائل التي انتشرت في بلاد الشام خلال القرنين الأخيرين من الألف الثالث قبل الميلاد وانتقلت شرقاً إلى بلاد النهرين- كانت كنعانية" (40).
"وقبيل نهاية الألف الثالث وعند مطلع الثاني ق.م كان قد جلس على عروش بابل ملوك كنعانيون / آموريون كما هو الحال في إسين، لورسا، بابل وأشنونة، ففي لارسا نابى نوم 2025-2005 ق.م، الذي أسس ملكاً دام حتى عصر الملك ريم شين 1822-1763 أما في إسين فقد أسس الماري إشبي إ" را 2017-1985 ق.م ملكاً دام حتى عصر سين مجير 1827-1817، وفي اشنونة حكمت سلالة ضعيفة. وجلس على عرش بابل سومو آبوم 1894-1881 الذي جاء بعده ملوك أقوياء كان أشهرهم حمورابي 1791-1750 الذي وحد البلاد وبعث أمجاد المملكة الاكادية" (41) فسلك نفس طريق سرغون الاكادي ( مؤسس أو ل امبراطورية في التاريخ بالمعنى السياسي) فوحّد بلاد الشام وبلاد الرافدين في امبرطورية منبعثة جديدة مركزها بابل.
أما ممالكهم الأخرى آشور، كركميش، يمحاض، ماري، ايبلا، قطنة.. فجميعها ذات أهمية خاصة، لكن ما يستحق الوقوف عنده، ولو لبعض الوقت فهي آشور وماري وايبلا. لما لذلك من أهمية خاصة تؤكد الوحدة الاناسية التاريخية ليس في شرق التراب العربي، بل وفي غربه أيضاً. فبعد أن تحدثنا عن دور ذلك الشعب في القسم الغربي من وطن العرب، لابد من العودة إلى بعض ملامح التاريخ الاناسي في المشرق العربي، لما لذلك من أهمية خاصة تغلق نوافذ الانعزالية في الهويات الوهمية. تماماً كما فعلت مع بلاد المغرب واريتيريا والسودان والصومال ووادي النيل، سنرى ماذا يقول التاريخ الأناسي عن آشور وماري وايبلا، لنعود لاحقاً بعكس الزمن الفيزيائي إلى دراسة التكوين الأناسي التاريخي للسومريين بزواياه التي تدحص فكر الاستشراق المزيف.
بدأت آشور مملكة ضعيفة عند بداية الألف الثاني ق.م ولما تولى السلطة الملك القوي شمشي حدد ( شمشي هدد) 1815-1782 معاصر حمورابي البابلي، وحّد المناطق الواقعة شرقي دجلة وغربه مع ماري، حتى وفاته، حيث ضمَّ حمورابي آشور لدولته بعد ذلك. أما المركز مدينة آشور ( قلعة شركت_ حالياً)، فقد سميت بهذا الأسم على شرف الاله آشور. وقد كان سكانها من العروبيين القادمين من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام، وراحوا هنا يعبدون الاله آشور وباسمه سموا بالآشوريين ( أتوراية) (42). بعد ذلك انتقل المركز إلى كلخو في عصر ناصر بعل ثم نينوى، حتى امتد تأثيرهم السياسي عام 671 ق.م إلى بلاد وادي النيل. أما بالنظر لمنهجنا في قراءة التاريخ، وأقصد بذلك التكوين الأناسي التاريخي، فلا يمكننا أن نجد حدوداً للفصل بين كل تكوينات التاريخ العربي القديم، المعرفية منها والمثيولوجية واللغوية والحضارية، ليس فقط بما يخصُّ تلك الممالك أو المناطق أو التكوينات السياسية المتلاصقة أو المتقاربة، بل أيضاً تلك المتباعدة منها، من قادش غرباً على بحر الظلمات وحتى قادش أواسط الشام، ومن قرطاج جنة العظيمة إلى بابل الجليلة. وبالتالي، لايمكننا أن نضع حدوداً للفصل بين مكونات البنائية الأناسية المعرفية للأشوريين والبابليين، بل أن كلاً منهما يشكل وجهاً مطابقاً أناسياً للوجه الآخر، مع التنوع في خصوصية الزمن التاريخي الذي يتحدث عن مظهر هام من أهم مظاهر العروبة بتكوينها الثقافي- الحضاري معبراً عن نفسه بحضارة جليلة تعيش نتاجها كل البشرية حتى اليوم، ولنتذكر ما كتب ن. نيولسكي" لقد دخلت عناصر الثقافة الاشورية - البابلية في لحمنا ودمنا وتغيرت وتفاعلت لدرجة غير معقولة بحيث لم يراودنا الشك في منشئها زمناً طويلاً. إلاَّ أنها عديدة وتذكرنا بنفسها يومياً. فنحن اعتدنا مثلاً على الأيام السبعة للأسبوع لدرجة أنه لانتصور أن نسأل أنفسنا 60 دقيقة في الساعة، 60 ثانية في الدقيقة.
إن هذه التقسيمات الاساسية الداخلة في لحمنا ودمنا ليست بمجملها منجزات أصلية لحضارتنا بل إنها تأخذ منابعها من قديم الازل من بلاد بابل العريقة. إن الانسان الفرنسي والانكليزي والالماني.. يلفظ تسمياته لأيام الأسبوع بشكل آلي دون أن نظن أبداً أن هذه التسميات هي ترجمة مبسطة لتسميات بابلية قديمة. يتعلم مئات الآلاف من الطلاب والطالبات في المدارس تقسيم الدائرة إلى 360 درجة ويقيسون الأقواس والزوايا بالدرجات ولايرد ببال أحد منهم السؤال لماذا لم تقسم الدائرة إلى مئة أو ألف درجة وفق النظام العشري، كما لايفكر أحد من علماء الرياضيات بضرورة إجراء مثل هذه الاصلاحات. إذ أن مجمل علم الهندسة المبني على هذا التقسيم قد دخل في لحم ودم علماء الرياضيات والتخلي عنه صعب مثلما هو صعب التخلي عن تقسيم اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى 60 دقيقة. إنه يحمل مثل هذه العراقة المشرفة ويرجع في أصوله إلى هاتيك البلاد في بابل.
إن الموطن التاريخي لعلم الفلك هي بابل أيضاً وإن الفلكيين البابليين هم الذين وضعوا القواعد الاساسية لعلم الفلك." (43) وهناك اكتشاف آخر في تاريخ الموسيقى حيث تكلم عنه أساتذة جامعة كاليفورينا سنة 1975م، إذ أنهم بعثوا الحياة في رومانس آشوري مكتوب على لوح الرومانس. وكان يعتبر سابقاً أن الموسيقيين القدامى استنبطوا نوطة واحدة فقط في المرة الواحدة، أما الآن فقد تم البرهان على أن الموسيقيين الاشوريين- البابليين استنبطوا نوطتين في كل مرة، واستخدموا المدرج الموسيقي السباعي وليس الخماسي فقط، إذ أن علماء الموسيقى كانوا يعتقدون قبل هذا الاكتشاف أن المدرج السباعي وضعه الاغريق سنة 400 ق.م.
والاختراع الآخر لدى البابليين- الاشوريين والذي مازال يستعمل على نطاق واسع حتى يومنا الحاضر هو الساعات الشمسية والمائية والتي شاهدها حتى هيرودوت. وقد أثبت العالم الاثاري البلجيكي ف. كيومون أن الاغريق اقتبسوا الساعة الشمسية من الشرق العربي أثناء إقامة العلاقات التجارية بين الشرق العربي والمدن اليونانية(44). واستعمل البابليون الاشوريون أيضاً الساعات الشمسية النصف دائرية لأغراض الرصد الفلكي. كما استخدموا في تلك الأزمنة الغابرة الساعات المائية.
إن الأسبوع السباعي الأيام هو من إرث العرب الاشوريين- البابليين ويرجع إلى آلهة الفلك السبعة، الذين يمثلون تراتبية خاصة في كل مظهر من مظاهر المثيولوجيا العربية: شمس ( الشمس)، سين ( القمر)، مردوخ (المشتري)، نيرغال ( المريخ) - عشتار ( الزهرة)، تابر ( عطارد)، فينورتا (زحل) وقد حفظت هذه الأسماء في تسميات الأيام باللغات الالمانية والفرنسية والانكليزية ولغات أخرى.
يضاف إلى ذلك الكثير من المكتشفات التي أنتجتها العبقرية البابلية- الاشورية بالتنظيم، وفن التطريز والبنى القانونية...
وعندما نبدأ بدراسة الهندسة لابد لنا أن نتعلم نظرية فيثاغورث وقد اقتبسها أثناء زيارته لبابل.
أما الرياضيون البابليون- الاشوريون فقد عرفوها قبل ذلك الوقت بألف عام، كما عرفوا استخراج الجذر التربيعي والتكعيبي ووضعوا مبادئ الجبر. ويكتب الأكاديمي ستروف:" إن مصدر النجوم الذي يمكن رسمه دون استخدام التلسكوب وضع في بابل وعبر الحثيين وصل إلى غربي البحر المتوسط. لقد وصل الفلك في بابل إلى درجة عالية جداً بحيث كان له تأثير واضح على المعارف الفلكية في بلاد الاغريق فيما بعد" (45).
وفي بلاد ما بين النهرين تم وضع أول تقويم قمري ما زال يستخدم حتى الآن، لقد تمكن علماء هذه البلاد من إيجاد العلاقة بين الشمس وإشارات الأبراج الفلكية في يوم الاعتدال الربيعي- كان بإمكانهم التنبوء بالكسوف والخسوف.
لقد جمع علماء الشرق العربي النباتات واصطفوها وصنفوها ووضعوا قوائم بالحيوانات المحلية والمستوردة، وكذلك بالمعادن كما أجروا تجارب في الزراعة والري. لقد حول سكان بلاد الرافدين وطنهم إلى مركز ضخم في الزراعة وقد اشتهروا بزراعة العنب وصناعة الخمور منه. كما أسست في بابل أول حديقة للحيوانات كما كان للنحت تطوره الرفيع الخاص.
وإذا عرجنا على مملكة ماري، فإننا سنلاحظ أن تاريخها في القرنين التاسع والثامن عشر ق.م هو تاريخ بلاد الشام الشمالية" ولولا وثائق ماري لما استطعنا كتابة تاريخ كركميش وإيحار ويمحاض وقطنه خلال هذين القرنين، ناهيك عن تاريخ الدولة الاشورية في عهد شمشي حدد الأول. ولاغرابة في هذا، فمن ماري انطلقت القبائل الكنعانية الامورية إلى بلاد بابل وسومر وآشور. ومثل ماري كانت عبلة" ايبلا" أيضاً فقد مرت بنفس الظروف التاريخية. فسكان المملكتين من أصل واحد وظروفهم الاجتماعية واحدة. ففي النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد استقر شيوخ القبيلتين " ماري" و" عبلة" في المدينتين اللتين سميتا بنفس الاسم وأسسوا دولتين قويتين ساهمتا في صنع حضارة بلاد الشام.(46) ولم تكن العلاقة وثيقة فقط بين ماري وعبلة" ايبلا" فقط، بل بينهما ومع أوغاريت وحلب(47)، وبينهم جميعاً وبلاد وادي النيل." فقد اكتشفت في أوغاريت آثار مصرية من عصر الامبراطورية الوسطى 2052-1610ق.م أهمها منحوتات لزوجة الفرعون زيزستروس الثاني ( 1897-1879ق.م) وللملك أمنحت الثالث ( 1840- 1792ق.م) وإن دلت هذه المكتشفات على شئ فإنها تدل على قيام علاقات صداقة ودية بين حكام أوغاريت وحكام مصر وحاشيتهم.
وقد أرسل المصريون هذه المنحوتات إلى أوغاريت للتقرب منها والحصول على بركة أربابها.
أما في المراحل اللاحقة فقد ظهرت مجموعة من الممالك كقادش ( تل النبي مندو على الطرف الجنوبي لبحيرة قطينة إلى الغرب من حمص) فقد كانت من أعمال الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث ( 1490 - 1436 ) من ثم عادت ووقعت تحت السيطرة المصرية في عهد رعمسيس الثاني فبقيت هي وبلاد الشام الجنوبية تحت النفوذ" المصري يضاف إليها حاصور غرب طبرية ويانوعما في حوض الاردن وبيلا وأكشف إلى الجنوب من عكا وشكما قرب نابلس ومجدو والتي تعتبر من أهم وأقدم مدن كنعان، وقد عين رعمسيس الثاني حاكماً مصرياً عليها بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ومملكة غزة وعاصمتها غزة من المدن القديمة في بلاد الشام. جعلها تحوتمس الثالث من أملاك الفرعون الخاصة مثل يافا. كانت مقر مملكة زاهرة، ثم أصبحت مقر الممثلية الفرعونية ببلاد كنعان في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولقد كان لوادي ودلتا النيل تأثير هام بالمفهوم الثقافي الذي يفضي إلى تكوينات أناسية معرفية ضمن علاقة التأثر والتأثير، كما نلاحظ من خلال السياق، وذلك على الامتداد العربي الكنعاني - الفينيقي الآموري الغربي " وكانت تلك العلائق ذات صفة خاصة مع القسم الجنوبي من فينيقيا وخاصة جبيل التي سّمّى حكامها أنفسهم ملوكاً مصريين وكتبوا آثارهم ووثائقهم باللغة المصرية." (48) 
يضاف إلى ذلك أن استخدام اللغة الاكادية ورموزها في الحياة اليومية كان واحداً من أهم عناصر الثقافة الأوغاريتية: باللغة الاكادية وضع مختلف أنواع الوثائق والمراسلات الدولية والرسمية والخاصة. فيرى د. لاريا أن اللغتين الاكدية والاوغاريتية استخدمتا على قدم المساواة في كتابة الرسائل والوثائق الاقتصادية. أما في حقلي العبادة والمثيولوجيا فقد استخدمت الاوغاريتية وحدها، وفي مجال العلاقات الدولية والمجال القانوني والثقافي استخدمت الاكادية فقط. ومع ذلك فثمة وثائق في العلاقات الدولية والتجارية كتبت بالأوغاريتيه. لكن بالرغم من ذلك لاريب في أن اللغة الاكادية كانت اللغة الرئيسة للكتابة(49).
ألا يعني كلَّ ما قلناه سابقاً أن هناك وحدة أناسية معرفية مميزة لكل الاشكال السياسية ومظاهر الممالك التي عُرفت في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. وبين هاتين المنطقتين وشبه الجزيرة العربية، ومع وادي ودلتا النيل، والساحل الافريقي من البحر الاحمر، امتداداً حتى الشمال الافريقي، مروراً بليبيا.
أما النقطة الأخيرة التي تحتاج الوقوف عندها قبل الانتقال إلى النواحي الأخرى من البنية التطورية الأناسية المعرفية العربية كاللغة والبناء الميثولوجي، فتتمثل في الوقوف عند نقاط الاستفهام في الحضارة السومرية- الاكادية والتي كانت موازية لإبلا بحيث حققت وثائق ايبلا ثورة في معارفنا التاريخية عن الشرق الأدنى في الألف الثالث قبل الميلاد، هذه الفترة التي شهدت بناء الاهرامات في مصر أو ما يسمى بعصر الملوك، وشهدت الحضارة السومرية- الأكادية العظيمة في الرافدين. فإلى جانب أكبر مصدرين للمعلومات التاريخية وهما مصر وبلاد الرافدين، أصبحت سورية بفضل اكتشافاتنا هذا المصدر الرئيسي الثالث للتاريخ الحضاري والسياسي في الشرق الأدنى" (50).
ومن المهم جداً إعادة التذكير بالتطور المناخي- الجغرافي الذي تعرّضت له منطقة الخليج العربي منذ نهاية العصر الجليدي الأخير وبداية المرحلة الدفيئة وحتى بداية الألف الرابع قبل الميلاد.
فكما قلنا سابقاً، كان مجرى نهري دجلة والفرات يمتد حتى مضيق هرمز، حيث كان مصب النهرين يطل مباشرة على بحر العرب، وتشكلت على ضفاف هذين النهرين مناطق ملائمة لجولان الانسان الباليوليتي ( وهذا ما تثبته بحوث السفينة الالمانية البحثية الميتيور)، بحيث تشكلت حضارة ما قبل الخليج والتي تؤكد كافة البحوث والدراسات والمكتشفات أنها موازية ومطابقة للمرحلة النطوفية في بلاد الشام والسبيلية في وادي النيل والحضارة الصفاقصية في المغرب العربي. ومع نهاية العصر الجليدي وبداية العصر الدفيء تقدمت مياه البحر لتغطي المساحة الممتدة بين مضيق هرمز وشط العرب مشكلة الخليج العربي، والذي كان يمتد مع نهاية الألف السابع قبل الميلاد إلى ما يقارب 145 كم شمالاً عما هو عليه الآن، بحيث كان الخليج يمتد حتى جنوب أور. وكان دجلة والفرات يصبان فيه كل على حدة. لأن مياه الخليج كانت تغطي ما يسمى الآن شط العرب. ومع مرور آلاف السنين تراكم الطمي والمواد اللحقية من انسحاب نسبي لمياه الخليج، بحيث شكل سهل شط العرب الذي شكله النهر ان بالتقائهما. وقد سادت في المرحلة الممتدة بين 4500 -3500 ق.م ما نسميه حضارة تل العبيد وتوافق النصف الأول من العصر الحجري النحاسي، وما يوافق ذلك من حضارة تل حلف. وقد سميت بذلك الاسم نسبة إلى تل العبيد الصغير، في جنوبي العراق، وإلى الغرب من مدينة أور الشهيرة حوالي 6كم.
وقد امتد تأثير حضارة تل العبيد من سواحل شبه جزيرة العرب المطلة على الخليج إلى بلاد النهرين، ليشمل النصف الشمالي من بلاد الشام، وخاصة سهل العمق، وأقام سكان تل الشيخ صناعة فخارية محلية، لاتقل جودة واتقاناً عن فخار الحلف والعبيد"(51) بالاضافة إلى التطابق شبه الكامل في تلك العناصر التقنية والمثيولوجية، بامتداد يشمل الساحل الشرقي لجزيرة العرب على الخليج ومنطقة الرافدين وبلاد الشام،" ومع تطور المعتقدات الدينية، ظهرت المعابد، بيوت الأرباب، فيها يقيم الناس صلواتهم، ويعبدون ربهم، ويتقربون إليه. ودليلنا على ذلك ما اكتشف من معابد في مدينة أريدو، التي تقع في أقصى الجنوب من بلاد الرافدين. في هذا الموقع نقبت بعثة وطنية عراقية تحت الزقورة، وكشفت عن ثماني عشرة طبقة، في كل طبقة معبد صغير بني للرب أنكي، إله الماء. في البدء كان المعبد عبارة عن مصلى مستطيل الشكل في وسطه منضدة لوضع النذور والقرابين عليها. وبعد وقت ليس بالقصير، أضيف إليه محراب، قبالة المدخل. ثم رفع فوق الأرض المجاورة، بواسطة مصطبة، بُني فوقها المعبد. ومع مرور الزمن كان لابد من توسيع المصلى، الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة لسبب أو لآخر. فبنى مصلى أكبر من السابق، شكله بقي مستطيلاً.ووضع أمام الضلع العرضاني محراب يقابله أما الضلع الآخر المنضدة وأحيط المصلى بمحراب، وأصبح الدخول إليه من باب في أحد جانبيه.
ومع مقارنة هذا الشكل مع أشكال المعابد في العصر اللاحق، يمكننا القول إن المخطط العام للمعابد السومرية- الأكادية قد رسم في هذا العصر، وأن وظيفة المعبد الاساسية قد حدِّدت أيضاً" (52) ونفس المعبد بنفس المواصفات تم اكتشافه في أقصى شمال بلاد الرافدين في تبه جوار ومعابد تل أسود أيضاً (53) كما أن المكتشفات في النسول على الساحل الشامي الفلسطيني أثبتت التطابق والتوازي في التطور الاناسي الحضاري على كافة المستويات، بحيث تميزت هذه المرحلة 5500-3500 ق.م باكتشاف النحاس، وحصر العبادة في أماكن مخصصة هي المعابد.
فهل يمكن ضمن هذا الواقع المشخص بمعطيات اقتصادية واجتماعية ومثيولوجية محدّدة أن نتساءل عن معنى وجود كيان سياسي بالمعنى المعاصر للكلمة، يضم كل بقاع الجغرافية التاريخية العربية التي تحدثنا عنها وما معنى هذا الكيان بصيغته التطبيقية في ذلك الزمن.
إن تلك الحضارة بتوضعاتها الجغرافية المتعددة هي الناتج الاناسي المعرفي لتطور أمّةٍ واحدة." وإن هذه المناطق الحضارية لم تكن تخصُّ أمماً، بل أمة / متشعّبة/" (54) تركزت أسسها الحضارية في كل مواقع هذا الوطن الجليل، ومن أهمها، والتي تستوجب الوقفة المعرفية، حضارة جنوب بلاد الرافدين. لقد تميَّزت المرحلة السابقة للتاريخ بالتراكم الاقتصادي- الزراعي- البضاعي مما أدى إلى التخصص في العمل والوظائف. وتطوير المقدرات التقنية وجوانبها الانتاجية، مما أدى إلى تشكل طبقة إدارية خاصة من رجال الدين بحيث تتحول البنية المثيولوجية من ثيولوجيا الجماعة الكتلة إلى مؤسسة دينية قادرة على الربط والتمييز بين المعبود والمكان.وهذا لم يكن مجرد طفرة في الزمان أو تأسيساً من خارج المكان البشري، بل كان نتاجاً موضوعياً وطبيعياً لحركية الكتلة الاجتماعية، بحيث أصبح النتاج الحضاري بإحداثياته الأناسية واسماً للجماعة التي تقطن تاريخية هذا المكان. وهذا ما يعطي التحديد بُعْدَيْهِ الأفقي والعمودي. فلا تبدو مسألة الوحدة السياسية الكيانية في ذلك الزمن بتعبيرها المعاصر إلاّ شكلاً من الفانتازيا، كسؤالنا تماماً، عن طبيعة البث التليفزيوني وبرامجه في مراحل ما قبل التاريخ فهذا النتاج الموضوعي والعضوي ببعديه الأفقي والعمودي كان موسوماً بوحدة عناصره التكوينية البنائية مما يعطي كل المكوِّنات اللازمة للوحدة الأناسية المعرفية ببعديها الجغرافي والتاريخي الواسمين لاحداثيات ذلك الزمن الاجتماعي.

وهنا يبدو مفهوم الكتلة فعلاً بنائياً قائماً في لب الحركية الأناسية، مرتبطاً عضوياً بما قبلها وبما بعدها، فلايمكننا عزل مرحلة كتلية " بمفهوم الزمن الاجتماعي" عن سابقتها ولاحقتها، كما لايمكن أن نُدخل قسراً حركية كتلة من خارج السياق العام الموضوعي للتطور الأناسي، إلاَّ إذا كانت موسومة بنفس الملامح والعلامات الثقافية.
وانطلاقاً مما سبق علينا مقاربة المرحلة التالية من الاناسة العروبية التاريخية والمسماة المرحلة السومرية- الأكادية. وسومر هي المنطقة الممتدة من بابل ( جنوبي بغداد) إلى الخليج العربي.
وقد تشكلت سهولها بعد انسحاب مياه الخليج نتيجة تراكم الطمي الذي حمله نهرا دجلة والفرات عبر آلاف السنين التالية لذلك. بحيث تبدو الحركية الحضارية الباليوليتية والميزوليتيت والنيوليتية بحضارات تل العبيد والورقاء باتجاه الشمال نحو ماري وايبلا( عبلة) - تل مرديخ متواصلة متداخلة ببداياتها ونموها التالي بالتطور السومري- الاكادي، ومن ثم البابلي الاشوري بحيث يصعب من الناحية الاناسية التاريخية مفصلة عناصرها إلى مكونات معزولة ..
سومر" شومرو" كلمة أكادية كتبت بالخط المسماري " كي- إن- جي " وتعني البلاد السيّدة وأنَّ هذه المنطقة كانت عامرة بحضارة عريقة قبل فجر التاريخ " مما يعني بالضرورة أن الحضارت السومرية هي استمرار معرفي كامل متطور لما قبلها، ونتاج عضوي وموضوعي للحضارة العروبية. والقارئ لأهم نص سومري:

" في عابر الأزمان لم يكن ثمة حية ولاعقرب
لم يكن ثمة ضبع ولا أسد
لم يكن ثمة كلب متوحش ولا كان ذئب
لم يكن هناك خوف ولا ارهاب
ولم يكن للانسان منافس
في غابر الزمان كانت بلاد" شويور"و" همازي"
وبلاد سومر المتعددة الالسن
البلاد العظيمة ذات النواميس الالهية الخاصة بالإمارة
وبلاد أوري التي حوت على كل ما هو لائق
وبلاد مارتو كانت آمنة مطمئنة
وجميع البشر والكون في وحدة وإلفة
يمجدون الله بلسان واحد
-------
في: دلمون" لاينعق الغراب الاسود
وطير" العتيدو" لايصيح ولايصرخ
الاسد لايفترس
والذئب لايخطف الحمل
لم يعرف الكلب المتوحش الذي يلتهم الجدي
ولم يعرفوا الكوارث التي تدمر الغلة
لم توجد الارملة
والطير من الاعالي لايسقط
والحمامة لاتحني رأسها
ما من أرمد يقول " عيني مربقة"
ولا مصدوع يقول " في رأسي صداع"
عجوز " دلموت " لاتقول " أنا عجوز"
العذراء ليست بحاجة إلى أن تغتسل
ولايهدر الماء الرائق في المدينة
من يعبر نهر " الموت" لايتفوه بالموت
والكهنة النائحون لايدورون حوله
المنشد لايعول بالرثاء
وفي طرق المدينة لاينوح ويندب"
يدرك بأن هناك تمثلاً لزمنٍ ماضٍ، يصف مرحلة سابقة قبل حدوث التراكم المادي الاقتصادي الذي أدى إلى تشكل طبقة إدارية وطبقة ملاّك " أو حيازة- كما يحقُّ للطيب تيزيني أن يسميها " بالأضافة إلى تحول البنية الثيولوجية المثيولوجية ( الدين) إلى واقع مؤسساتي، تُفرز له شريحة خاصة من الكهنة والسدنة وارباب المعابد.
والنص السابق، يصف بما لايدع مجالاً للشك منطقة الخليج العربي في المراحل المتأخرة من النيوليث والميزوليث. فالاشارات المكانية واضحة، مركزها دلمون " البحرين حالياً " أما جزيرة الديلم وهي الجنة الموصوفة في غابر الازمان، وهذا يعني أن الكتلة الاجتماعية التي يخاطبها النص تعرف عبر الذاكرة الجمعية والمخيال ما معنى الدلمون، وأين هي، وبالتالي فهي تعيش الناتج الحضاري الأناسي للتغيرات التي طرأت على الواقع الجغرافي والديمغرافي بشكل عام في منطقة تعيش في لب التكوين الثقافي والتاريخي للكتلة الاجتماعية التي يخاطبها النص. وهذا يعني أن السومريين هم أبناء هؤلاء الأجداد الذين بنوا الحضارات السابقة على امتداد جغرافية المشرق العربي.
الاشارات الأخرى لأوري ومارتو تعني معرفة دقيقة في الامتداد الجغرافي الشمالي لبلاد الرافدين وبالامتداد الحضاري الجغرافي لها في سوريا. يضاف إلى ذلك أن السومريين لو كانوا غرباء عن المنطقة كما يحلو لبعض المستشرقين المتصهينين الادعاء بذلك، فلماذا تركوا كل السياق الجغرافي وامتداده للرافدين شمالاً وقطنوا في المنطقة الجغرافية الواقعة شمال غرب الخليج العربي وبما يرمز له النص بامتداد تاريخي نحو البحرين حالياً.
الاعتراف بالتراكم المادي وبفائض الانتاج الذي أدى إلى فرز طبقة الكهنة واضح في النص :
" والكهنة النائحون لايدورون حوله" يعني وجود طبقة من الكهنة وهي سمة ملازمة للدين المؤسساتي، بما يعنيه ذلك من توضع مادي عريق، كان متوفراً في تلك الحضارة، ولو كان متوفراً للسومريين قبل قدومهم لو كانوا غرباء لما احتاجوا إلى الهجرة والتنقل والبحث عن موقع للحياة.
النص يتحدث بصريح العبارة عن وحدة الحضارة أناسياً في منطقة الشرق العربي:" وجميع الكون والبشر في وحدة وإلفة يمجدون الله نليل" بلسان واحد.ومن المعروف ولادة الإله " سين"/ الاله القمر / من خلال لقاء انليل وننليل في جزيرة الديلم/ الدلمون/ والبحرين في الثيولوجيا السومرية، وهذا بالتعبير الأناسي الثقافي الدقيق لايمكن أن يكون إلاَّ كناتج أناسي تطوري للكتلة الاجتماعية العروبية في مظهرها السومري، بحيث شكلت الحركية الجولانية نمطاً ناقلاً في المخيال والذاكرة الجمعيين المكونات البنائية الحضارية. فلولا تمتع السومريين بتلك المكونات العروبية لما استطاعوا إحداث تلك النقلة في منطقة من الطمي والرسوبيات." وعلى كل حال يبدو من نتائج الدراسات الحالية وكأن جنوب بلاد ما بين النهرين الذي عُرف فيما بعد ببلاد سومر، قد دخل مرحلة التطور متأخراً قليلاً عن الأقاليم الشمالية لنهري دجلة والفرات. وقد تجلى ذلك بالدرجة الأولى مقابل ماعرف بعد ذلك ببلاد آشور في ضواحي مدينة الموصل الحالية وفي منطقة الخابور. وقد يكون هذا طبيعياً إذا اعتبرنا أن منطقة الفيضان المستنقعية عند مصب دجلة والفرات قد امتدت إليهما يد الانسان شيئاً فشيئاً وقطنها بعد أن نفذ فيها طريقة ري بدائية وشق إلى جانب ذلك شبكة من الطرق اللازمة.
إن الذي يدل على الاستيطان المتأخر نسبياً- للجنوب، هو أنه لم تظهر هناك أية مكتشفات واضحة من العصر الحجري أو حتى من فجر العصر الحجري- النحاسي. وفي المقابل أصبح الأمر في هذا المجال عادياً لدينا في شمال ما بين النهرين وفي شمال بلاد الشام" (55). ومن البسيط جداً تفسير ذلك بالعلاقة مع حركة مياه الخليج العربي عبر التأكيد على حضارة ما قبل الخليج التي تحدثنا عنه يضاف إلى ذلك أن شكل الجمجمة المورفولوجي المكتشف في بعض المواقع لايعتبر دليلاً، لأن الانسان عبر تطوره التاريخي مرَّ بمجموعة من المراحل المورفولوجية. كما أن منطقة جنوب الرافدين، والخليج العربي كانت مستقراً لمجموعة من الحركيات الجولانية التاريخية.
بالاضافة لذلك لابد من التأكيد على أن الوضعية المكتشفة لتماثيل مناطق سومر هي مورفولوجيا محسوبة على سكان الشرق العربي. أما الجماجم المستطيلة والطويلة فهذا تابع لما قلناه أعلاه.
يضاف إلى ذلك ما يذكره البعض من ارتداء سكان سومر للثياب الخشنة. بحيث يمكن أن نتساءل هل ارتداء الثياب الخشنة تابع لفولوكلور شعبي أم استجابة بيئية لمناخ معين؟؟ فحتى لو افترضنا أن السومريين قدموا من خارج المنطقة، فهل كان ذلك من خلال هبوطهم بالمظلاّت بحيث لم يكن لديهم الوقت اللازم لاستبدال ثيابهم بأخف منها بما يستجيب لمنطقة الجنوب الرافدي الدفيئة؟!! أليست الثياب واللغة حالات اجتماعية قابلة للتطور قياساً بالمفهوم الزمني الاجتماعي؟ أم أننا نطالب أجدادنا منذ ستة آلاف عام أن يكتبوا الشعر بطريقة بدر شاكر السياب، وإلاَّ فهم غرباء عن المنطقة فالعودة إلى البنية الميثولوجية بما راكمت من عناصر بنائية تمكننا من التأكيد أن السومريين لم يكونوا إلاَّ عروبيين أقحاحاً لم يتصفوا بعنصر تكويني واحد خارج البناء الأناسي العروبي (56).
ولاتكفي في هذه الحالة الردود المحدودة المنشورة هنا وهناك إن كان على صموئيل كريمر أوديورانت أو غيرهما ممن حاولوا أن يردّوا فجر التاريخ إلى خارج المنظومة العروبية فعندما عجزوا عن تزوير أناسة المكان، لأنه قائم في الأثر المكتشف وفي احداثيات الموقع المدروس، ارتدوا لتزوير أناسة الزمان " التاريخ"، فيتساءل كثير من المستشرقين" وحتى أنطون موتكارت نفسه" بأن تلك الحضارة هل كانت ثمرة النضوج الفكري لشعب المنطقة أم أنها كانت بتأثير شعب جديد قدم إلى هناك؟ (57)
بالإضافة لما قلناه سابقاً لابد لنا من العودة لما أسميناه" الاحداثيات الأناسية المعرفية" ببعديها العمودي المرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، وبالأفقي المرتبط بالبنى المعرفية الأناسية التي سارت موازيةً أو سبَّاقة على تلك المقدّمات التي أعطتها الحضارة السومرية.
ومن المهم التذكير به أولاً، أن السومريين لو كانوا قد قدموا إلى المنطقة العربية من خارجها، فمن أين جاؤوا؟ ومن أي منطقة أتوا.. وهم يحملون معهم ما حملوا من تقدم حضاري، لماذا لم يتركوا في المنطقة المزعومة التي تركوها، ما يدل على آثارهم العظيمة؟ إن كانوا من بلاد ماوراء القوقاز أو من الهضاب الموزعة هنا وهناك خارج المنطقة العربية. وأعتقد جازماً بأن أي شعب من الشعوب المجاورة أو البعيدة عن الوطن العربي لن تبخل علينا لإظهار أي قطعة حصى أو حجر تؤكد انتماء السومريين لها. ولا أعتقد كما قلت أعلاه، بأنهم نزلوا بالمظلات من سماء مجهولة، لذلك نحن بانتظار تنقيبات الفضاء عن تلك الحضارة. ولايهمني في هذا الإطار الإشارة فقط إلى أدوات الاستشراق الأيديولوجي الزائف، بل يهمني أيضاً الاشارة إلى أولئك الباحثين العرب" الذين يمكنني أن أتهمهم بأنهم، إن كانوا عن غير قصد قد تبنوا تلك النظريات الاستشراقية فهم جهلة بالقراءة التاريخية المشخّصة. فكل ذلك اللفيف " بعربه وعجمه" متفقٌ على السؤال، ترى من أين جاء السومريون؟ وكأن السياق العام الذي تقدمه إحداثيات التحليل الأناسي يبتعد بالسؤال إلى خارج المنطقة العربية.
إن ذلك السياق يقدم كل المعطيات اللازمة للتأكيد على أن السومريين هم النتاج الطبيعي والعضوي والحتمي للتطور الأناسي السابق لهم في المنطقة العربية. فحتى لو افترضنا أنهم غرباء هل يمكن عزل ما قدموه عن المنظومة الثقافية والحضارية / الأناسية المعرفية/ العربية؟!
إنّ المتفحص البرئ والحيادي لتطور المنطقة العربية كما أوردناه/ منذ عصور الباليوليت وحتى العصر الحجري- النحاسي ثم النحاسي يدرك بما لايدع مجالاً للشك بأن النقلة النوعية الحضارية التي تحققت مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد هي الناتج الأناسي الطبيعي لما سبقها .
حتى ولو كان السومريون من خارج المنطقة العربية فهم لم يقدموا ما هو غريب عن سياقها التاريخي لامن ناحية البنية التقنية ولا من النواحي الثقافية والميثولوجية.
وهذا التداخل العمودي الذي نتحدث عنه يدفعنا للتأكيد على انعدام القدرة على إيجاد حدود الفصل بين المرحلة الماقبل سومرية والمراحل التالية لذلك لانرى عيباً في تسمية المرحلة التالية كما يفعل كثيرٌ من دارسي التاريخ بالسومرية- الاكادية.
إن التراكم المادي الذي تحدثنا عنه والذي أدى إلى وجود فائض سلعي دفع باتجاه تمايز شريحة الكهنة. وهذا ترافق بالضرورة مع تطور اللغة كسيرورة اجتماعية تاريخية مميزة للجهاز الاشاري الثاني لدى الانسان وما يعنيه هذا من أنها مرت بمراحل زمنية طويلة من التطور الاشاري الصوتي قبل انتقالها إلى مرحلة الكتابة. بحيث مرت هذه الاخيرة أيضاً بمراحل تطور تميزت بالتراكمات الكمية وبالنقلات النوعية التي نحن بصدد الحديث عنها باختصار." ونحن نعرف أنه حيثما توجد كائنات بشرية تكون لها لغتها، وفي كل الأحوال تكون هذه اللغة أساساً لغة محكية مسموعة في عالم الصوت.
وعلى الرغم مما تحمله الاشارة الجسدية من ثراء، فإن لغات الاشارة المتطورة ليست إلاّ بديلاً للكلام، تعتمد على نظمه الشفاهية، حتى عند استخدامها على يد الأصم خلقياً. أما معظم اللغات فلم تعرف طريقها إلى الكتابة على الاطلاق. وليس هناك من بين الـ 3 آلاف لغة المتكلم بها اليوم سوى ما يقارب 78 لغة فقط لها أدب مكتوب. وليس ثمة طريقة إلى الآن لإحصاء عدد اللغات التي اختفت أو تحولت إلى لغات أخرى قبل أن تعرف الكتابة. كذلك فإن مئات اللغات المستخدمة اليوم لم تكتب أبداً، إذ لم ينجح أحد في التوصل إلى طريقة فعالة لكتابتها. إن الأصل الشفاهي لأي لغةٍ هو أن للغة سمة لاصقة بها(58).
ولابد من مرورها بمرحلة بينية قبل تحوّلها إلى لغة كتابية. وتتميز هذه المرحلة البينية بتجميعية اللغة، باصطفاف الكلمات والتصاقها سوية لتكوين لغة مركبة، ذات معنى مركب. وتعتمد على المقاطع اللفظية وليس على الحروف. ومن الطبيعي أن تتميز طبقة الكهنة بامتلاك هذا الانتقال النوعي نظراً لرفعة المؤسسة الدينية ( الميثولوجية) ودورها في التمايز التالي في الكتلة الاجتماعية.
وإذا كانت اللغة السومرية عبارة عن صور أو رموز مجردة تعكس تعبيراً معيناً كمرحلة بينية للانتقال إلى اللغة المكتوبة الأبجدية اللاحقة إلاَّ أن بها كلمات عربية ترجع إلى الأقوام الأولى قبل ظهور السومريين" (59)" كما كانت هذه الكتابة واسطة عملية لإدارة اقتصاد المعبد المادي أكثر من أن تكون تعبيراً لمفاهيم روحية سامية، إذ أنها كانت عبارة عن واسطة عملية لتنظيم اقتصاد المعبد فقط(60).
وهذا يؤكد نخبويتها وتخصصها في الشريحة العليا من المجتمع ذات التخصص الكهنوتي أو ما يرتبط به من إدارة. وهذا يؤكد أنها نتاج عروبي، وإلاَّ لماذا، وكيف دخلت بها كلمات عربية ترجع إلى الأقوام الأولى قبل ظهور السومريين، فيما لو كان السومريون قد جاؤوا من خارج المنطقة حتى ولو من جنوبها ؟‍! حيث يتحدث بعضهم وكأن جنوب منطقة سومر خارج المنطقة العربية أليس هو منطقة الخليج العربي، والساحل الشرقي للجزيرة العربية؟ أليس هو منطقة البحرين/ الديلم؟ وهل منطقة الجزيرة العربية خالية من الجبال ليقول بعضهم، إن وجود" الجبل" في المثيولوجيا السومرية دليل على اغترابهم عن المنطقة؟".. وكذلك لأهمية " الجبل" في اعتقاداتهم الدينية. إلاَّ أن غالبية الباحثين تميل الى الاعتقاد بأن السومريين وصلوا عن طريق الخليج في الجنوب لأن تجمعهم كان في الجنوب" (61) يضاف إلى ذلك أهمية ذلك التداخل العمودي في التكوين الأناسي المتوّاشج عضوياً وموضوعياً" هو أن غالبية النصوص التي تفسر طريقة النطق" باللغة" السومرية ترجع إلى الاكاديين الذين خلفوهم. واستخدمت الكتابة المسمارية لتدوين" اللغات" الاكادية والبابلية والآشورية والأوغاريتية حتى عُممت الأبجدية الفينيقية " ( 62) وبنفس التزامن ظهر معها "اللغة المصرية القديمة " كلهجة من لهجات اللغة العروبية" ممايدل على أن سكان مصر أقوام جاءت من الجزيرة العربية وشمال وشرق أفريقيا " فهي تشترك مع تلك اللهجات العروبية في خاصتها الاساسية التي تجعل كلماتها تُشتقُّ من مصدر واحد، غالباً ما يتكون من ثلاثة أحرف كما تشتمل على الكثير من الكلمات والمفردات المشتركة/ وسنعود بمزيد من التفصيل إلى هذا الحقل في الفصل القادم.
أما ما يخص التداخل الأناسي المعرفي الأفقي فهو التطابق في البنية المثيولوجية، ووجود مواقع أخرى موازية زمنياً تتفوق على المستوى الذي ميّز النقلة السومرية فذلك التفوق كان حقيقة واقعة منذ قرون عديدة كما حدث في ماري وكيش،" خاصة وأننا نملك منحوتات من مدينة ماري تحمل كتابة عروبية أقدم من عصر سلالة أور الأولى" (63) ويدعم ذلك بأن كريمات الحكام الاكاديين كنَّ قد دخلن معبد إله القمر في أور كعرائس للآلهة(64) حتى أن سرجون الأول كانت أمّه عروساً من عرائس الآلهة، ومن تلك الكاهنات اللواتي قطعن عهداً على أنفسهن بعدم انجاب الأولاد منذ اللحظة التي بوركن فيها. ولكن عندما أنجبت رغم ذلك طفلاً في مدينة آزوبيرانو وضعته سرّاً في صندوق من القصب وألقت به في نهر الفرات(65). كما أن المرء لايشك الآن في قيام علاقة ومبادلات تجارية مع النوبة ( في وادي النيل) = ملوحة آنذاك، بعد أن ثبت وجود علاقة قوية بين سومر في عصر فجر التاريخ ومصر في عصر تيكاد الثاني .(66) وبنفس الوقت يتعذر على المرء أن يفرق بين الديانة الأكادية والاعتقاد السومري بالآلهة بعد ذلك الانصهار القوي بين عناصر الديانة السومرية والعروبية الشرقية (67). بحيث يتأكد بالبراهين الدقيقة أن السومريين هم النتاج الطبيعي الموضوعي للتطور الأناسي العروبي .وشكلوا حلقة من حلزون التطور العروبي التالي، فاسما آخر ملكين في سلالة أور الثالثة شو- زن وأبي - زن كانا عروبيين حتى أن من أبرز ما قام به الملك العروبي " شو- ايلي - شو" أو " جميل - ايلي-شو" الذي حكم مدة عشر سنوات حربه مع العيلاميين وانتصاره الساحق عليهم مما أدى إلى استرجاع تمثال إله القمر (نناز) الذي حمله العيلاميون معهم إلى بلادهم قبل انتصارهم على ملك أور " أبي -سن".
" لقد كانت سورية في العصر الحجري النحاسي كما كانت في العصر الحديث المركز الحضاري الرئيسي في الشرق الأدنى بأسره، ويرجح بعض العلماء أن معرفة النحاس قد انتشرت من سورية إلى جميع جهات الشرق الأدنى كمصر وبلاد الرافدين، كما أنهم يرجحون أن استعمال الخزف وتدجين القمح والشعير وبعض الأشجار كالتين والزيتون والكرمة وتدجين بعض الحيوانات الأهلية التي عُثِرَ على دمى لها مصنوعة من الطين كالثور والغنم والماعز والخنزير وبعض الطيور كالحمام انتشرت من سورية إلى المناطق المجاورة" (68)" وقد يصعب أحياناً بالنسبة لعلماء الآثار تحديد مسار حضارةٍ ما وفقاً لتعاقبها الزمني مع حضارة أخرى، إلاَّ أن الرأي السائد هو أن نقطة الانطلاق كانت في الشمال الرافدي، ثم تحولت نحو الجنوب خلال أدوار العصر الحجري النحاسي، أي أن التحول انتقل من الشمال إلى الجنوب إلى المنطقة التي شهدت ميلاد الحضارة السومرية فيما بعد.وليس من السهل تحديد الأدوار المتعاقبة للعصر الحجري النحاسي ب، 2500 سنة أي في الفترة الواقعة ما بين 6000 و3000 سنة قبل الميلاد وتقع ضمن هذه الفترة مرحلة الانتقال إلى عصر فجر التاريخ(69).فكيف ينحو أنطون موتكارت بعد قوله السابق للتساؤل عن الموقع الاساسي للسومريين، بحيث يتساءل عنه وكأنه قد حسم موقفه بأنهم غرباء عن المنطقة العربية. علماً أن كل النصوص التي قمنا بإيرادها، لاتدع مجالاً للشك بأن السومريين هم من أبناء القبائل العربية تحديداً، وهم حلقة من حلقات التطور الأناسي في حركيته المعرفية والحضارية.ففي عصر فجر السلالات عرف أقدم حاكم من حكام ( لاجاش) يدعى" لوجال- شاج- " وقد ورد اسمه في نصٍ قديم مسجل علىرأس دبوس قدّمه للاله " نينجرسو" إله مدينة لاجاش ملك عربي كان يحكم مدينة " كيش" اسمه مسيليم وقد كتب النص المذكور كما يأتي:
" مسيليم ملك كيش، الذي بنى معبد نينجرسو، أودع رأس الدبوس هذا من أجل نينجرسو، حين كان لوجال - شاج - أنجور حاكماً" ايشاج" على لاجاش"(70).
ويشير نص آخر إلى أن ملك كيش قد قام بالتحكيم بين مدينتي " لاجاش" و" أوما" عندما اشتد الخلاف على الحدود بينهما. ويشير النص المذكور إلى وضع اتفاقية حددت بموجبها الحدود بين المدينتين، كما يذكر أن تلك الاتفاقية وضعت بناءً على رغبة الإله " انليل" وأن كلاً من إله " لاجاش" وإله" أوما" قد وافقا عليها. ووضعت لوحة مسيليم على خط الحدود الفاصل بين اراضي المدينتين حسب الاتفاقية المذكورة.
ولذلك نرى في بعض المراجع، إن لم يكن في معظمها، أن مجموعة كبيرة من المؤرخين تقسم تلك المرحلة إلى ماقبل مسيليم، ومسيليم وما بعد مسيليم.
فكيف إذن يمكن أن نقول مع هؤلاء المستشرقين ذوي الأيديولوجية التزييفية بأن السومريين قدموا من خارج المنطقة العربية؟ أليس حرياً بنا نحن العرب أن نعود لقراءة تاريخنا قراءة أناسيةمعرفية تضع الاحداثيات التاريخية في سياقها الزمني الصحيح وتضع الأحداثيات الجغرافية في مواقعها المترابطة تاريخياً، بحيث نعيد لتاريخنا مساره الصحيح.
وحتى إذا عرّجنا قليلاً على إطلاق التسميات وبحثنا في بعضٍ من تأسيسها المعرفي لاحظنا بأن الكتلة الاجتماعية العروبية في تاريخها السحيق تشكل كتلة أناسية معرفية " تاريخية وجغرافية" واحدة، ذات سيرورة بنائية متصاعدة متكاملة. فيذكر د.منير يوسف طه: بأن سكان شبه جزيرة عمان لايمكن فصلهم عن سكان الساحل الغربي للخليج العربي مادام هذا الساحل يشكل وحدة جغرافية تتصل بسواحل البحر الأبيض عبر الفرات، ويقترح بأن الأموريين " العموريين" هم كانوا سكان المنطقة الممتدة من عُمان إلى البحرين، اعتماداً على بعض اللقى الأثرية، وبعض الكتابات التي ذكرت أسماء أمورية " عمورية" لأفراد من منطقة ديلمون " البحرين".
وفي فترة متأخرة، تعود إلى حوالي سنة 640 ق.م أيام الملك الاشوري أشور بانيبال يوجد هناك نص من معبد عشتار في نينوى يذكر أن الملك بادي (PADE) ملك أرض كادي " قادي" (Qade) والمقيم في مدينة اسكي، قدم إلى نينوى ليقدم الجزية إلى الملك الأشوري.(72).
كما نلاحظ أن النص ذكر بلداً باسم كادي، وهو اسم لعُمان، استخدم منذ عهد الدولة الاشورية الثالثة مروراً بزمن الدولة الكلدانية. والاسم أكدي الأصل" كا- دي-ي -De-E- Qa) أو ( كاددو-وQa-Du-U) وكاد - دو - بالأكادية. وهي كلها تدل على اسم مكان واحد هو عُمان. أما اسم أسكي الوارد في النقش، فهو ربماإزكي، وهو اسم لمدينة مشهورة تقع في المنطقة الداخلية من عُمان، وتعتبر من أقدم المدن العمانية(73).
أما بعلاقة العمالقة التاريخية وسكناهم في تلك المنطقة، فعلى ذلك يتفق كل الاخباريين والمؤرخين والذين أطلق عليهم لاحقاً اسم الكنعانيّين " الفينيقيين" والذين شرحنا باسهاب حركية تاريخهم الأناسي في التاريخ والجغرافية العربيين بالإضافة لما أوردناه في هذا الفصل من حيثيات تأريخية وجغرافية دقيقة ونظراً لضرورة إكمال هذا البحث باتجاه القراءة المتأنية والحيادية لأصل السومريين بالقراءة النسبية يمكن إضافة العناصر التالية:
- إن الدراسات الأنتروبولوجية Antrpolojy التي أجريت على عظام وهياكل قبور هيلي في رأس العين في الامارات، وشمل، وغليله في شمال رأس الخيمة، والتي تعود فتراتها إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، تثبت أن السكان كانوا يتمتعون بصحة جيدة، وأنهم كانوا يتصفون بالرشاقة والطول والضخامة، إضافة إلى أن حياتهم كانت قصيرة حيث دلت الدراسات على أن أعمارهم تقدر بين 35-40 سنة بالاضافة إلى أنه توجد على هياكل قبور هيلي بعض الملامح الافريقية مما يوحي بأن السكان ربما اختلطوا بجنس افريقي (74)
وهنا لايمكن مناقشة الاختلاط بشكل طفرة أو الاختلاط العابر. فهذه السمات التي تدلُّ على العماليق= الكنعانيين= الفينيقيين، تؤكد بأن علم الاناسة الاثنولوجية يوضح لنا أن جولات القبائل العروبية بين الألفين السادس والثالث قبل الميلاد لم تختزل في القسم الاسيوي من الوطن العربي فقط، بل شملت كل القسم الافريقي، وخصوصاً الساحل الشرقي الافريقي المطل على البحر الارتيري" الأحمر" مروراً بمضيق باب المندب وحتى الرأس الافريقي والساحل الصومالي. فبالإضافة لما ذكرناه سابقاً حول شهادة هيرودوت بناء مدينة صور من قبل الفينيقيين على ساحل البحر الكبير= أمورو " عمورو"= البحر الأبيض= الساحل الفينيقي الشرقي، عام 2750 ق.م يشير الجغرافي اليوناني سترابو "64ق.م - 21م" إلى أنه توجد في منطقة الخليج العربي معابد ومدن شبيهة بتلك التي على الساحل الفينيقي، كما أيَّده بذلك بليني (23-79م). أما المؤرخ الروماني جوستين " القرن الثاني الميلادي" فيذكر أن الفينيقيين قد هاجروا من بلدهم الأصلي بسبب زلزال أصاب بلدهم واستقروا أولاً بالقرب من بحيرة سورية " البحر الميت" ومن هناك انتشروا على سواحل البحر الأبيض. كما استفاد الاسكندر المقدوني (336-323) ق.م من خبرة الفينيقيين في الملاحة وصلتهم القديمة بمنطقة الخليج العربي ( 75) بارسالهم إلى مياه الخليج عبر نهر الفرات.
كما أن التشابه في بعض أسماء المدن والمواقع في الخليج والساحل الفينيقي مثل: صور في عمان وصور في شمال فينيقيا على الساحل الشامي، وجبيل على الساحل الفينيقي وجبيل على ساحل الخليج في شمال شرق الجزيرة العربية،.. وما أوردناه أعلاه يؤكد أن الكنعانيين= الفينيقيين هم نفسهم العمالقة الذين استوطنوا شبه جزيرة عمان، وأجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية وساحل الخليج العربي وأنهم هاجروا إلى بلاد الشام واستقروا على ساحل البحر الأبيض قبل وأثناء الألف الرابع قبل الميلاد كأحد المحاور من محاور جولانهم في شعاب الوطن العربي وسواحله خصوصاً كما قلنا أعلاه. بحيث يبدو من القراءة الدقيقة أن السومريين جاؤوا فعلاً من دلمون / البحرين/ وفيها تعلموا الكتابة كما يقول علي أكبر حبيب بوشهري - 76).
ومما تجدر الاشارة إليه في المحطة الأخيرة من تقييمنا للتاريخ الأناسي المعرفي الاصلي للكتلة الاجتماعية العروبية في مراحل الحضارات الجليلة نماذج من العلائق المتينة التي تؤكد على وحدة التاريخ والجغرافية الأناسيين العربيين. بحيث لابدَّ من الوقوف عند إحدى الحلقات الهامة التي تؤكد على الطبيعة الواحدة في التركيب البنيوي الثقافي وبالتالي السياسي، وذلك من خلال العلاقات التي كانت تربط بلاد الشام كإحدى أهم حلقات الوصل بالامتداد العربي مع وادي ودلتا النيل.
ففي نفس الوقت الذي تحدثنا فيه عن التماثيل في مراحل التاريخ الحضاري للنطوفية والسبيلية انتقلنا إلى رسم التكوين الأولي المعرفي أناسياً الذي أدى بالضرورة إلى تكوين واقع فكري مميز لخصناه في السطور الأولى من هذا الفصل، وفصّلناه باسهاب مع تطور اللغة الشفاهية إلى كتابية في مشرق الوطن العربي بما عناه ذلك من ضرورة تمايز طبقة الكهنة كمؤسسة دينية ارتبطت بوجود التراكم المادي والفائض الاقتصادي الذي وشى ببنية جوهر حركيته ما يمكن أن نسميه تفرّغ هؤلاء الكهنة، وهذا، طرح ضرورة الارتقاء بعلاقات الكهنة بالمعبود من خلال اللغة وبمكان العبادة من خلال تجسيد أفكار الاعتقاد والعبادة " ميثولوجياً" عبر لغة تنتقل إلى صيغة التجسيد القائم المعزول عن وجود الانسان بحيث دفعت تلك الحاجة إلى نقل اللغة الشفوية، التي يزول تأثيرها، بانتفاء وجود الانسان المتحدث بها، إلى اللغة الكتابية أو المكتوبة والتي يبقى تأثيرها قائماً رغم انعدام وجود ناطقها. وهذا ما شكل أحد العلامات المميزة الرابطة بين نقل التجسيد من واقع الصوت إلى واقع النقل الحركي له مكتوباً. كل ذلك شكل أحد الملامح الأساسية للانتقال في "فلسفة" القراءة المعرفية الأناسية لمعنى وجود الانسان وعلاقاته بمكوِّنات وجود البنائية. فاعتبر قراءته للذات مرتبطة بالنطق، باللفظ، بالكلمة الملفوظة، ومع انتهاء آخر حركية صوتية كان يعتقد بأنَّ ذاته انتهت مع انتهاء تلك الحركة بما يعني بها من وشائج ربط مع كل إحداثيات وجوده المرتبط بالمعبود، فحدا به ذلك إلى الانتقال إلى حالة استمرارية في قدرة تأثيره، وهذا بالضبط ما تحققه الكلمة المكتوبة.
ومن المؤكد أن الكتابة نشأت وتكاملت بصورة تدريجية أيضاً في بلاد النيل كما هي الحال في بلاد الرافدين وديلمون ،" فقد عثر على صور ورسوم متنوعة من عصر ما قبل الاسرات، دخلت فيما بعد في طريقة الكتابة الهيروغليفية التي كانت تتألف من مجموعة من الصور المبسّطة..فالخط المتعرج يمثل الماء، العصا المقوّسة عند طرفها والتي يحملها الملك تدل على السلطة والسلطان، رسم الشجرة يدل على النبات، والقدم على الرجل أو فعل المشي أو الذهاب..وقد بدأت الكتابة بتصوير الاشياء للدلالة عليها، ثم تطورت فأصبحت الصور تدل على الأفعال المتعلقة بتلك الاشياء، ثم أصبحت الصور تدل على الأفكار المرتبطة بها (77). ومن الملفت للانتباه أن هذا التطور في الارتقاء حدث بالتوازي والتطابق مع مثيله في بلاد الرافدين مع نهاية الألف الخامس وبدايات الألف الرابع قبل الميلاد. ففي عصر ما قبل الأسرات بين نهاية الألف 4500 - 3200 ق.م تقدم سكان الدلتا تقدماً فكرياً كبيراً في هذا العصر، فاخترعوا الكتابة ورتبوا العمليات الزراعية حسب تقويم أوجدوه من ملاحظاتهم المتكررة لظاهرة الفيضان السنوي التي تقع بانتظام، فقد كان الفيضان يصل في يوم معين من كل سنة إلى منف وهليوبوليس، وقد تأكد السكان من ذلك بملاحظة بعض الظواهر الفلكية، كما دفعتهم ضرورات الحياة الزراعية إلى الانتباه لمثل هذه الملاحظات، فتمكنوا بذلك من معرفة عدد أيام السنة وقسموّها إلى اثني عشر شهراً، وقسموا الشهر إلى ثلاثين يوماً، وخصّصوا للأعياد الأيام الخمسة الباقية وفيها ينصرفون إلى اللهو والطرب" (78) ولم يكن ذلك إلاَّ نتاجاً لتطورات نوعية وتراكمات كمية عبرت آلاف السنين في علاقات مناطق الوطن العربي مع بعضها، فبعد أن أخذت الأمطار تقل تدريجياً، وأخذ الجفاف بالازدياد مع نهاية الألف العاشر قبل الميلاد، بحيث شهدت هذه الفترة مولد نهر النيل بشكله الحالي.. واستمرت صناعة الأحجار الصغيرة والدقيقة ذات الاشكال الهندسية المختلفة التي كانت منتشرة في الفترة الاخيرة من الحضارة السبيلية وانتقلت من حلوان إلى فلسطين(79) ومنها إلى باقي بلاد الشام فيما يسمى الحضارة النطوفية التي كانت سائدة في بلا الشام بين الألفين التاسع والثامن قبل الميلاد.
إن تطور الرؤية الفلسفية بمعانيها الأولية للوجود بما عنته من علاقة الأرض بالسماء، بحيث تعبر النفس الانسانية عن علاقة التأثير فيما بينها، بحيث لاتستطيع إلاَّ أن تدفع بالأرض تجاه الأعلى في علاقةٍ ما زال حتى إنساننا المعاصر يبحث عن جوهر تلك المحاولات في الصعود عبر الارتفاع بالأرض والتعبير بما تستطيع يداه فعله من خلال بناء المعابد الصاعدة أو المقابر التي ترتفع" بالمتوفى" ولم يكن حل هذه المعادلة بالغريب عن فكرنا العربي بمقدماته الأولية والتالية، بل كان عنصراً من عناصر تطوير البنية الأناسية الحضارية
" فهرم سقارة المدرج الفريد من نوعه، والذي يبلغ ارتفاعه ستين متراً، وهو أول هرم عُرف في التاريخ يشبه بصورة عامة بناء الزقورة أي الأبراج التي كانت تبنى في بلاد الرافدين " (80).
أما بالقراءة السياسية المباشرة" بما تعنيه في تلك العصور" فيمكن أن نختتم قراءتنا في هذا الفصل ببعض ملامح الوحدة بين بلاد الشام وبلاد النيل، بعد أن بينا بمعطيات التاريخ الأناسي هذه الوحدة:
فلقد وصلت حملة تحوتمس الأول(1525-1495 ق.م) إلى منطقة النهارينا ( تقع بين نهر العاصي ونهر الفر ات وفروعه إذ تمتد حتى الخابور) وخلد تحوتمس الأول هذه الفتوحات بلوحة تذكارية أقامها على شاطئ الفرات وذكر فيها أعماله وفتوحاته موحداً بذلك / وبالشكل السياسي / مصر وسوريا (81) كما أن الحملة الثامنة لتحوتمس الثالث وصلت إلى نهر الفرات (82)، كما أن أمنحوتب الثالث (1397-1365 ق.م) تزوج بإمرأة مشهورة تسمى " تي" وهي ابنة شيخ وأمير سوري، كما كانت تتواجد في قصره أميرات سوريات وبابليات وآشوريات عديدات.
كما أن زوجة أمنحوتب الرابع" ابن الملكة السورية " تي" " أخناتون، تاو وخيبا هي سورية وقد عرفت باسم نفرتيتي(83). وأخناتون هذا أول من نادى بعبادة الاله الواحد- الديانة التوحيدية وهذا الاله هو أتون الشمس المحرقة،، وأدى به الحماس إلىالاله الجديد إلى أن حرم على الناس إقامة التماثيل للاله أتون، لأن هذا الاله حسب زعمه موجود في كل مكان، ومن المعروف وحدة انتشار هذه الفكرة ورفعة تأثيرها باتجاه شبه الجزيرة العربية بالصابئة والاحناف، كما أن تلك الأدعية التي تمجد إله الشمس أتون تذكر بتمجيد السوريين له إلى جانب شعب مصر والنوبة(84) وفي عصر رمسيس الثاني تمَّ ضم الساحل الفينيقي (1284 ق.م) وفي العام الذي يليه تقدم رمسيس الثاني إلى الداخل الشامي فانضم إليه ملك قّطْنا العموري وبعد ذلك بفترة ليست طويلة حكم الامير السوري " ارسو" مصر كاملة (85).
أمَّا عن وحدة التطور الحضاري الأناسي مع بلاد الرافدين، فبالاضافة إلى كل ما ذكرناه أعلاه، يشير طه باقر إلى أن وحدة العلاقات تعود" إلى أواخر الطور الحجري- المعدني أي عهد ما قبل السلالات، كذلك في بداية عهد السلالات أي في المراحل الأولى من نشوء الحضارة الراقية في كلا القطرين" (86) ومن أهم الدلائل على ذلك ظهور ووجود واكتشاف بعض الادوات والنماذج الخاصة بحضارة بلاد ما بين النهرين في مصر (87) ويشار في هذا السياق إلى " أواني الحجر المزينة بالنحت البارز وبعض الطرز القديمة الخاصة بالأبنية السومرية التي وجد ما يطابقها في المقابر الملكية المصرية في المصاطب القديمة، وفي تخطيط اللحود الملكية الأولى ولاسيما لحود ملوك السلالة الأولى، وكذلك استعمال الأختام الاسطوانية" (88).
حتى أن الدولة الاشورية الحديثة أخضعت مصر الفراعنة نفسها لسلطانها (89). لذلك أرى من الضروري إعادة التذكير بما قدّمه الباحث إحسان جعفر في بحثه" بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية "، حيث يؤكد على الاصل الأناسي الأثنولوجي الواحد لعرب الجزيرة العربية ووادي النيل وشمال افريقيا والذي يعود تأريخياً إلى الألف العاشر قبل الميلاد (90)، ويشير إلى أن أكثر من دراسة تاريخية أو آثارية أو لغوية قام بها عدد من المؤرخين والعلماء وتبين أن الرأي الذي ذهب إلى أن الفراعنة عرب قدماء ما هو إلاَّ حقيقة واقعة، وقد تبّنى هذا الرأي كثير من علماء اللغة والآثاريين الألمان، وشاركهم في رأيهم هذا الاثاري العربي المصري الأول أحمد كمال، وشيخ العروبة أحمد زكي والدكتور أحمد عيسى وغير هم، وهم يرون أن المصريين القدماء جاؤوا من جزيرة العرب، وبهذا الصدد يقول المؤرخ اللغوي أحمد كمال في كتابه " الحضارة القديمة":" اختلفت الآراء حول الجهة التي وفد منها قدماء المصريين فقال لبسيوس : إنهم دخلوا عن طريق برزخ السويس، لكن قوله هذا نُبذ الآن- وقال غيره: إنهم اجتازوا البحر الأحمر من الجهة التي تُعرف الآن بميناء القصير، فساروا منها إلى وادي الحمامات، ثم إلى مدينة قنا الواقعة في مصر الوسطى على مقربة من طيبة. ورجح نافيل انتقالهم من جنوب الجزيرة العربية عبر البحر من جهة مصوع بما في ذلك من توافق مع الرواية المنقولة عن ديودور الصقلي، وقال نافيل : هذه الرواية المؤيدة لمجئ المصريين عبر مصوع كافية بمفردها لاثبات ماسبق بيانه من أن أصل المصريين القدماء من بلاد العرب الجنوبية لأن في الرواية إشارة إلى أن أولئك الفاتحين بعد أن انتقلوا من مواطنهم نزلوا على شواطئ البحر الأحمر في الحبشة/ كما أوردنا وبتفصيل أناسي معرفي وتاريخي في بداية هذا الفصل واقاموا فيها زمناً قبل زحفهم على وادي النيل (91).
ويضيف أحمد كمال في موضع آخر من كتابه المشار إليه إنه :" لما جاء الحوريّون- وهو يقصد بهم قدماء المصريين القادمين من بلاد العرب- تغيرت مظاهر الحياة، وتبدلت معالم البلاد بما انتشر فيها من الحضارة الجديدة، فكانت أعمال ملوكهم باكورة التقدم والنجاح، وفاتحة كثيرٍ من الاصلاح.
ويفسِّر لنا أحمد كمال اسم هؤلاء الحوريين الوافدين من جزيرة العرب فيقول:" إن الملوك القدماء حوريون، أي يُنسبون لحوريس، وبطريقة أوضح لأنهم أتباع " الحر "(92) إي البازي لأن هذا الطائر الذي امتاز بسرعة الطيران والقنص كان لهم بمثابة لواء تستظل به قبيلتهم الاصلية، وكان يرمز به لمعبودهم حوريس سواءاً كان على صورة طائر أو صورة إنسان برأس طائر، والبازي باللغة البوربائية (93) إشارة هيروغليفية يلفظ بها" حُر" وهو لفظ عربي بحت معناه البازي أو الباشق، ولاشك أن هذا المعنى يؤيّد، من حيث الاصل قوله: إن الفاتحين أي أتباع حوريس كانوا من بلاد الجزيرة العربية.
 

- الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الانتربولوجية المعرفية العربية
» الدولة المغربية والمذهب المالكي دراسة في إشكالية العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة المعرفية في المغرب
» كتاب الأنثروبولوجيا اللغوية
» في مواجهة الأعطاب التاريخية العربية
» الخطاب الديني في القنوات الفضائية العربية: دراسة وتحليل للمضمون

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: