** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

  مسألة التقنية مارتن هيدجر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

  مسألة التقنية  مارتن هيدجر Empty
14102012
مُساهمة مسألة التقنية مارتن هيدجر

فيما يلي نتساءل حول موضوع التقنية. أن نتساءل هو
أن نعمل على إعداد طريق وأن نشيده. لهذا فمن المناسب أن نفكر قبل كل شيء
في الطريق وألا نرتبط باقتراحات أو تسميات خاصة. الطريق هو طريق الفكر. كل
طرق الفكر تقود، بكيفية غير واضحة وبممرات غير معتادة، عبر اللغة. إننا
نسل في موضوع التقنية ونريد بذلك أن نقيم علاقة حرة معها. والعلاقة تكون
حرة، عندما تفتح كينونتنا على ماهية التقنية. إذا قدمنا جوابا حول هذه
الماهية نستطيع عندئذ أن نعي النزعة التقنية Technicité في حدودها.
التقنية وماهية التقنية ليسا نفس الشيء. عندما نبحث في
ماهية الشجرة علينا أن نفهم أن الذي يحكم كل شجرة باعتبارها شجرة، ليس هو
ذاته شجرة يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى. وبالمثل فإن ماهية التقنية
ليست مطلقا شيئا تقنيا. وهكذا فإننا لن ندرك أبدا علاقتنا بماهية التقنية
طالما اقتصرنا على تمثلها وممارستها، وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب
منها. ومهما فعلنا فسنبقى خاضعين للتقنية ومحرومين من الحرية سواء دافعنا
عنها بانفعال أو أنكرناها. ومع ذلك فعندما نعتبر التقنية بمثابة شيء حيادي
نكون عندئذ قد استسلمنا لها وبأسوأ الأشكال: لأن هذا التصور الذي حظي
اليوم بحظوة خاصة يجعلنا عميانا تماما تجاه ماهية التقنية. ومنذ مدة ونحن
ندرّس بأن ماهية الشيء هي ما هو هذا الشيء. نتساءل حول التقنية، عندما
نسأل ما هي التقنية. وكل واحد يعرف الإجابتين الجاهزتين عن هذا السؤال.
قول الإجابة الأولى: إن التقنية وسيلة من أجل تحقيق بعض الغايات. أما
بالنسبة للثانية: فالتقنية فعالية خاصة بالإنسان. هاتان الطريقتان في
تحديد التقنية متعاضدتان، وذلك لأن وضع غايات، وتكوين واستعمال وسائل كل
ذلك يعد من أفعال الإنسان، كما أن صنع واستعمال آلات وأجهزة وأدوات يعد
جزءا من ماهية التقنية. هذه الأشياء المصنوعة والمستخدمة، بالإضافة إلى
الحاجيات والغايات التي تحققها، كلها تشكل جزءا من ماهية . إن التقنية هي
مجموع هذه المعدات، بل هي ذاتها عدة (باللاتينية نقول أداة: Instrumentum ).
يمكن أن نسمي التصور الجاري للتقنية، والذي بمقتضاه تكون
التقنية وسيلة وفعالية إنسانية، بالتصور الأداتي والأنتروبولوجي للتقنية.
من يريد أن ينكر صواب هذا التصور؟ إنه تصور يناسب بشكل ظاهر
كل ما نراه ونحن نتكلم عن التقنية: بل إن التصور الأداتي للتقنية صائب
بطريقة أقل جلبا للاطمئنان بقدر ما يكون مطبقا على التقنية الحديثة؛ التي
نؤكد عنها من جهة أخرى، ومعنا بعض الحق في ذلك، أن هذا التصور مختلف تماما
وبالتالي جديد بالقياس إلى التقنية اليدوية السابقة. لنأخذ مثلا محطة
مولدة للكهرباء، سنرى أنها هي أيضا بأسطواناتها ومولداتها، وسيلة شيدت من
طرف الإنسان لأجل غاية وضعها الإنسان. أما الطائرة النفاثة، أو الآلة ذات
التواتر العالي فهما أيضا وسيلتان من أجل تحقيق غايات. من الطبيعي أن نرى
أن محطة الرادار هي وسيلة أكثر تعقيدا من طاحونة الهواء، كما أن بناء آلة
ذات تواتر عال يتطلب تضافر مختلف أشكال التقنية الصناعية. وبالطبع فمعمل
نشارة خشب صغير يعمل في واد مجهول بالغابة السوداء، سيكون وسيلة بدائية
بالمقارنة مع المحطة الكهربائية "للراين".
يظل من الصائب أن التقنية الحديثة هي أيضا، وسيلة من أجل
تحقيق غايات. لهذا نرى أن التصور الأداتي للتقنية يوجه كل الجهد ليضع
الإنسان في علاقة صائبة مع التقنية. إن الاستعمال الجيد لهذه التقنية على
أنها وسيلة هو النقطة الجوهرية في هذه المحاولة. لهذا نريد -كما يقال- أن
نتحكم في التقنية ونوجهها لصالح غايات "روحية". نريد أن نصبح سادة عليها.
إن إرادة السيادة هاته تصبح أكثر إلحاحا كلما هددت التقنية أكثر بالانفلات
من مراقبة الإنسان.
لكن لنفترض الآن أن التقنية ليست مجرد وسيلة: ما هي الحظوظ
التي تتبقى للإرادة في أن تتحكم فيها؟ مع ذلك نقول بأن التصور الأداتي
للتقنية كان صحيحا، وهو ما زال كذلك. إن النظرة الصحيحة تلاحظ دوما، فيما
هو أمامنا، شيئا ما صائبا. لكن تكون الملاحظة صحيحة فهي لا تحتاج لكشف
ماهية ما هو أمامنا، هناك فقط عندما يحدث مثل هذا الانكشاف يتجلى ما هو
حقيقي. لذلك فإن ما هو دقيق فقط لم يصل بعد إلى كونه هو الحقيقي. هذا
الأخير هو وحده الذي يضعنا في علاقة حرة مع هذا الذي يخاطبنا انطلاقا من
ماهيته الخاصة. إن التصور الأداتي للتقنية، رغم صحته لم يكشف لنا بعد عن
ماهيتها. لكي نسير نحوها، أو على الأقل لنقترب منها، علينا أن نبحث عن
الحقيقي عبر الدقيق، وعلينا أن نسأل ما هو الطابع الأداتي ذاته؟ ولِم
تتعلق أشياء مثل: الوسيلة والغاية؟ تعني الوسيلة ما به ننجز ونحصل على شيء
ما. أما ما يكون له مفعول كنتيجة فنسميه علة. لكن الشيء الذي بواسطته
يكون شيء آخر قد أنجز لا يكون وحده كافيا ليسمى علة. الغاية التي بموجبها
تتحدد طبيعة الوسائل هي أيضا تعتبر بمثابة علة. هناك حيث تصبح الغايات
موضع بحث والوسائل موضع استعمال، وحيث تكون الأداتية سائدة، هنا أيضا تسود
العلية.
تعلمنا الفلسفة منذ قرون بأن هناك أربع علل.
1 - العلة المادية: مثلا المادة التي نصنع بها كأسا من الفضة
2 - العلة الصورية: الشكل الذي تدخل فيه المادة.
3 - العلة الغائية: مثلا الغاية التي بها يتحدد كل من مادة وشكل الكأس التي نحن بحاجة إليها.
4 - العلة الفاعلة:
أي تلك التي تصنع النتيجة أي الكأس الواقعية المكتملة: الصائغ. ستنكشف
لنا ماهية التقنية متمثلة كوسيلة، عندما نرجع الأداتية إلى العلة الرباعية.
لكن إذا كانت العلية، من جهتها، تخفي في الظلام ما هي
فالحق، أنه منذ قرون، ونحن نتصرف وكأن نظرية العلل الأربع حقيقة نزلت من
السماء، وأنها واضحة وضوح النهار. غير أنه ستأتي المناسبة لنتساءل: لماذا
هناك بالتدقيق أربع علل؟
وعندما نتحدث عن العلل ماذا تعني بالضبط كلمة "علة"؟
انطلاقا من ماذا يتحدد الطابع العلي للعلل الأربع الذي يجعل هذه العلل
متضامنة الواحدة مع الأخرى؟
ما لم نواجه هذه المسائل أي: العلية ومعها الأداتية، ومع
هذا: التصور الجاري للتقنية، فستبقى هناك مسائل غامضة وعائمة.
لقد تعودنا، منذ مدة طويلة على أن نتصور العلة بأنها الشيء
الذي يفعل ويُحدث. يعني الفعل أحدث هنا: أحرز على نتائج. إن العلة
الفاعلة، من ضمن العلل الأربع، هي التي تطبع العلية بطريقة محددة. هذا إلى
درجة أننا لا ندخل في الحسبان العلة الغائية. إن الكلمتان (Causa-Casus ) (تعنيان العلة باللغة اللاتينية) ترتبطان بالفعل (Cadere )
ويعني سقط. وهما يعنيان: هذا الذي يعمل بطريقة معينة، بحيث أن شيئا ما
"يحدث" في النتيجة بشكل أو بآخر. نشير إلى أن نظرية العلل الأربع ترجع إلى
أرسطو. لكن في كل الحقب اللاحقة لليونان، التي تبحث تحت تسمية أو تمثل
العلية، نلاحظ أنه ليس للعلية في الفكر اليوناني، أي شبه مع معنى الإنجاز
والإحداث. إن الفعل الذي نسميه نحن علة، والذي سماه الرومان Causa يسميه اليونان: "الفعل الذي يستجيب لـ...". هناك مثال يمكن أن يوضح ذلك:
الفضة هي ما أصنع به كأس الفضة. ومن حيث هي تلك المادة
فإنها مشاركة في مسؤولية صنع الكأس. والكأس مدينة للفضة بما صنعت به.
لكنها لا تبقى مدينة فقط للفضة. إن ما هو مدين للفضة، من حيث هو كأس، يبدو
في مظهره الخارجي على شكل كأس وليس على شكل إبزيم أو حلقة حديدية، فهو
مدين إذن في نفس الوقت لهيأة (Idéa :
فكرة بالمعنى اليوناني) شكله ككأس. إن الفضة التي دخلت فيها هيأة الكأس،
والهيأة التي في شكلها يظهر شيء الفضة، هما معا، بطريقتهما، مسؤولان عن
الكأس مسؤولية مشتركة.
هناك عامل ثالث يبقى، قبل أي شيء مسؤولا عن الكأس، وهو ما
يدرجه مسبقا في عملية التكريس والهبة. وهكذا يكون معرفا كشيء قرباني. إن
ما يعرّف الشيء يتممه، والشيء لا ينتهي مع هذه "الغاية" بل يبدأ انطلاقا
منها على أنه هو ما سيصحبه الشيء بعد صنعه. هذا الذي يتمم ويكمل يقال له
باليونانية (تيلوس)، وهي كلمة تترجم في الغالب بكلمة "هدف" و"غاية"، وهو
ما يقودنا إلى تأويل خاطئ. إن التيلوس هو المسؤول عن المادة وعن الهيئة
اللذين يشاركان معا في مسؤولية صنع كأس القربان.
في الأخير هناك عامل رابع، يتكفل هو أيضا بإحضار وإنجاز كأس
القربان المكتملة: إنه الصائغ. لكن ليس بمعنى أن الصائغ قد صنع، بعمليته
هاته، كأس القربان المكتملة كنتيجة لصناعته، أي ليس مطلقا كعلة فاعلة.
لا تعرف نظرية أرسطو العلة التي يشير إليها هذا الاسم كما أنها لا تستعمل لفظا إغريقيا معادلا.
الصائغ يعتبر ويجمع الأنماط الثلاثة المذكورة "للفعل الذي
نستجيب له". الفعل "اعتبر" يعبر عنه في اليونانية بجمع وضم، ويرتبط بفعل
الإظهار. إن الصائغ هو المسؤول المشارك وكأنه ما يجد ويحافظ، انطلاقا منه،
إنتاج كأس القربان وارتكازه على ذاته، انبثاقهما الأول. إن الأنماط
الثلاثة المذكورة سابقا للفعل الذي نستجيب له مدينة لتفكير الصائغ في
ظهورها وفي دخولها عملية إنتاج الكأس، إنها مدينة له أيضا بالكيفية التي
صنع بها.
ها هي كأس القربان حاضرة وتحت تصرفنا، موجهة بالأنماط
الأربعة "للفعل الذي نستجيب له" ولو أن الأنماط مختلفة فيما بينها، فهي
تبقى، مع ذلك، مترابطة بعضها ببعض. ما الذي يوجدها مسبقا؟ في أي مجال تدور
اللعبة المزعجة للأنماط الأربعة "للفعل الذي يستجيب لـ..."، من أين تنحدر
وحدة العلل الأربع؟ بتعبير يوناني ماذا يعني "الفعل الذي نستجيب له.."؟
نحن بدورنا أبناء اليوم، نميل بسهولة لفهم "الفعل الذي
نستجيب له" بطريقة أخلاقية، أي نعتبره كنقص، أو مؤوله كنوع من عملية
تطبيقية. في كلتا الحالتين نسد الطريق المؤدية إلى المعنى الأول الذي سمي
بالعلية. لهذا طالما لم ينفتح لنا هذا الطريق لن ندرك ما هي بالضبط هذه
الأداتية التي تكمن في العلية.
لكي نتحصن ضد هذه التأويلات الخاطئة "للفعل الذي نستجيب له"
نستوهم أنماطه الأربعة، منطلقين من هذا الذي يتعين عليها أن تستجيب له.
نتابع مثالنا ونقول: تتكفل الأنماط الأربعة بكون كأس الفضة هي أمامنا وتحت
تصرفنا كشيء يصلح للاستعمال في طقس القربان. تحدد هذه الأفعال معنى أن
يكون الشيء أمامنا، وتحت تصرفنا وهذا هو ما يسم حضور شيء حاضر. إن الأنماط
الأربعة "للفعل الذي نستجيب له.." تقود شيئا ما نحو "ظهوره". إنها تتركه
يحدث ويحصل و"أن يكون قريبا من". إنها تحرره في هذا الاتجاه وتتركه يتقدم
في مجيئه الكامل. إن للفعل الذي تستجيب له السمة الأساسية المتمثلة في هذا
الترك للشيء يتقدم في مجيئه. بهذا المعنى أي ترك الشيء يتقدم يكون "الفعل
الذي نستجيب له.." هو "الإتيان ب". ونحن نأخذ بعين الاعتبار شعور اليونان
تجاه "الفعل الذي يستجيب لـ..." سنعطي الآن لكلمة الإتيان ب بمعنى أوسع
"عن المعنى المعتاد" بحيث يعبر عن ماهية العلية كما فكر فيها اليونان.
وعلى عكس ذلك فإن الدلالة المتداولة والضيقة لـ"كان مناسبة لـ" لا تذكرنا
بأكثر من صدمة أولية واندلاع، ويشير إلى نوع من العلة الثانوية ضمن مجموعة
العلل.
في أي مجال تتحرك اللعبة المتوافقة للأنماط الأربعة للإتيان
بـ؟ إنها تترك ما ليس بعد حاضرا، يصل في الحضور. وهكذا فالعلل الأربع
محكومة بفعل اقتياد، يقود شيئا حاضرا نحو "الظهور". في عبارة من محاورة
"المأدبة" يقول لنا أفلاطون ما هو فعل الاقتياد هذا: "كل إتيان بـ أيا كان
- يمر ويتقدم من اللاحضور إلى الحضور، هو "إنتاج".
النقطة الجوهرية هنا هي أن نأخذ كلمة الإنتاج في كل مداها،
وفي نفس الوقت بالمعنى الذي نسبه لها اليونانيون. ليس الإنتاج هو فقط
الصناعة الحرفية، وليس هو فقط الفعل الشعري والفني الذي يظهر ويخبر على
شكل صورة. إن الطبيعة (بالمعنى اليوناني أي الفيسيس) التي عن طريقها ينفتح
الشيء من تلقاء ذاته هي أيضا إنتاج. بل هي ذاتها إنتاج بأرقى معاني
الكلمة. لأن ما هو حاضر يملك في ذاته إمكانية الانفتاح (المتضمنة) في
الإنتاج، مثلا الإمكانية التي لدى الوردة في أن تتفتح في ازدهارها. على
العكس من ذلك فإن ما أنتج من طرف الصائغ أو الفنان ككأس الفضة مثلا، لا
يملك في ذاته إمكانية أن ينفتح (المتضمنة في) الإنتاج، بل إنه يملكها عبر
الآخر، أي عبر الفنان أو الصانع.
إن أنماط الإتيان ب أي العلل الأربع تقوم بعملها إذن داخل
عملية الإنتاج. وبفعل عملية الإنتاج يظهر إلى الوجود، في كل مرة، سواء ما
ينمو في الطبيعة أو ما تصنعه الحرف والفنون.
لكن كيف حدث هذا الإنتاج سواء في الطبيعة أو في الصناعة؟ ما
هو هذا الإنتاج الذي تتحرك فيه الأنماط الأربعة للإتيان ب؟
يتعلق الإتيان ب بحضور كل ما يظهر في عملية الإنتاج. إن
الإنتاج ينقل الشيء من حالة الاختفاء إلى حالة عدم الاختفاء. فهو إذن
يستحضر ويقدم. لا يحدث فعل الإنتاج هذا إلا بقدر ما يقود شيئا من الاختفاء
إلى خدم الاختفاء. يستند فعل الوصول هذا، ويجد نفسه فيما نسميه بالانكشاف
(الكلمة تعني هنا فعل الخروج من الغياب والتستر). لقد سمى اليونان هذا
الانكشاف باسم الأليتيا وهي كلمة ترجمها الرومان بحقيقة Veritas . نحن الألمان نقول Wahrheit )حقيقة) ونفهم منها عادة دقة أو صواب التمثل.
أين نحن تائهون؟ تساءلنا عما هي التقنية، وها نحن الآن أمام
الأليتيا، أمام الانكشاف. ما علاقة ماهي التقنية بالانكشاف؟ الجواب هو
أنها تلتقي معه في كل شيء. لأن كل إنتاج يجد أساسه في الانكشاف. غير أن
هذا الأخير تتجمع فيه الأنماط الأربعة للإتيان بـ أي العلية، ويحكمها في
مجال الانكشاف تدخل الغايات والوسائل والأداتية أيضا، وهذه تعتبر البعد
الأساسي للتقنية. إذا دققنا بهدوء، سؤالنا، وتساءلنا ما هي بالضبط هذه
التقنية المفهومة كوسيلة عندئذ سنصل إلى الانكشاف، الانكشاف وفيه تكمن
إمكانية كل عملية صنع منتجة.
هكذا ليست التقنية وسيلة فحسب، بل هي نمط من الانكشاف. إذا
اعتبرناها كذلك، سينفتح لنا بالنسبة بالنسبة لماهية التقنية مجال مخالف
تماما. إنه مجال الانكشاف، أي مجال الحقيقة.
هذا المنظور يدهشنا، ينبغي أن يدهشنا لأطول مدة ممكنة،
وبطريقة ملحة، ليدفعنا في الأخير إلى أن نطرح، بجدية هذا السؤال البسيط:
ماذا تعني إذن الكلمة "تقني". تنحدر هذه الكلمة من كلمة يونانية أخرى هي
"تيكنيكون" وهي تعني الشيء الذي ينتمي للتقنية. لفهم معنى هذه الكلمة
الأخيرة، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نقطتين: الأولى هي أن التقنية لا
تعني فعل الصانع وفنه فقط، بل تعني كذلك أيضا الفن والفنون الجميلة.
التقنية جزء من فعل للإنتاج، إنها صناعة أو إنتاج شعري بالمعنى الأسمى
للكلمة "Poietique ".
أما النقطة الأخرى بخصوص
كلمة تقنية، فهي أيضا أكثر أهمية. إلى حدود فترة أفلاطون، كانت كلمة
"تقنية" مرتبطة دائما بالكلمة (أبيستينون) وهي تعني العلم أو المعرفة.
الإثنان اسمان للمعرفة بالمعنى الأوسع. فهما يعنيان فعل القدرة على
الاهتداء في شيء ما، والتعرف إليه. تقدم المعرفة انفتاحات، وبما هي كذلك
فهي انكشاف. في بحث خاص (الأخلاق إلى نيقوماخوس، الجزء الخامس، الفصل
الثالث والرابع) يميز أرسطو بين المعرفة والتقنية، وذلك من حيث ما يكشفانه
والطريقة التي يكشفانه بها. إن التقنية شكل من أشكال الآليتيا. إنها تكشف
هذا الذي لا ينتج ذاته وليس بعد أمامنا، وهو ما يمكن أن يأخذ مرة هذا
المظهر، وهذه الهيئة، ويأخذ مرة أخرى شكلا آخر. إن من يشيد منزلا أو
باخرة، أو يصنع كأسا قربانيا، يكشف الشيء الذي يعين إنتاجه حسب منظورات
الأنماط الأربعة "للإتيان بـ". هذا الانكشاف يجمع قبلنا المظهر الخارجي
ومادة الباخرة أو المنزل في منظور الشيء الجاهز والمرئي، ويحدد انطلاقا من
ذلك كيفيات الصنع. وهكذا فالنقطة الحاسمة في التقنية لا تكمن نهائيا في
الفعل والاستعمال، ولا في استخدام الوسائل أيضا لا بل تكمن في الانكشاف
الذي نتحدث عنه. وهكذا فالتقنية هي إنتاج بمعنى انكشاف لا إنتاج بمعنى
الصنع.
يكفي أن نظهر ما تعنيه كلمة التقنية، والكيفية التي يتصور
بها اليونان هذا الذي يسمونه بالتقنية، لكي نسير إلى نفس نقطة الالتقاء
التي انكشفت لنا، حين كنا نبحث عما تعنيه في الحقيقة الأداتية باعتبارها
كذلك.
إن التقنية شكل من أشكال الانكشاف، فهي تنشر كينونتها في
المنطقة التي وجد فيها الانكشاف، واللاتحجب، والآليتيا أي حيث وجدت
الحقيقة.
بعد تحديدنا للمنطقة حيث يجب البحث عن ماهية التقنية يمكن
أن نعترض ونقول بأن هذه المنطقة جائزة بالنسبة للفكر اليوناني، وأحسن من
ذلك نقول بأنها تناسب التقنية الحرفية، لكنها غير مطابقة بتاتا للتقنية
الحديثة القائمة على المحركات. إن التقنية الحديثة هي وحدها العنصر المغلق
الذي يدفعنا لنتساءل عما هي "الـ" تقنية. يقال إن التقنية الحديثة مختلفة
عن سابقاتها، إلى درجة أنها لا يمكن أن نقارن معها، لأنها مؤسسة على
العلم الحديث الدقيق للطبيعة. قبل قليل، كما قد رأينا بوضوح أن العكس أيضا
صحيح: الفيزياء الحديثة، بما هي تجريبية فهي تخضع لعتاد تقني، وهي مشروطة
بتقدم صناعة الآلات. هذه العلاقة المتبادلة بين التقنية والفيزياء تبدو
صائبة. لكن الملاحظة التي قيلت عنها تبقى ملاحظة "تاريخية" للأحداث، حيث
أنها لا تقول لنا شيئا عن أساس هذه العلاقة المتبادلة. ومع ذلك يبقى
السؤال الحاسم هو ما هي إذن ماهية التقنية الحديثة، لكي تستطيع هذه
الأخيرة أن تتجرأ على استخدام العلوم الطبيعية الدقيقة؟
ما هي التقنية الحديثة؟ هي أيضا انكشاف. حين نمعن النظر في هذه السمة الأساسية، حينئذ يتجلى لنا ما هو جديد فيها.
إن الانكشاف الذي يسود التقنية الحديثة لا يتجلى في إنتاج،
بمعنى إنتاج شعري. الانكشاف الذي يسود التقنية الحديثة هو عبارة عن تحريض
عن طريقه تكون الطبيعة منذورة إلى تقديم طاقة يمكن، من حيث هي كذلك، أن
تستخرج وتراكم. لكن ألا يمكن أن نقول نفس الشيء عن طاحونة الهواء القديمة؟
لا: إن أجنحتها تدور بفعل الريح، وهي منذورة مباشرة إلى
هبوبه. لكن إذا كانت الطاحونة الهوائية تضع تحت تصرفنا طاقة متولدة عن
حركة الهواء، فليس ذلك لمراكمتها.
وعلى العكس من ذلك فإن منطقة من المناطق تكون مدعوة إلى
ومحرضة على استخراج الفحم الحجري والمعادن. تظهر القشرة الأرضية اليوم
كحوض للفحم الحجري، والأرض كمستودع للمعادن. كم يبدو مختلفا تماما الحقل
الذي كان يحرثه الفلاح فيما مضى، في حين كان فعل "حرث" ما يزال يعني: أحاط
الحقل بسياج واعتنى به. عمل الفلاح هذا لا يحرض الأرض المزروعة. عندما
يزرع الفلاح الحبة، فهو يعهد بالبذرة إلى قوى النمو، ويسهر عليها حتى
تزدهر. لكن خلال ذلك، أُدخلت فلاحة الحقول هي أيضا، في حركة للفلاحة من
نوع آخر، حركة "تطالب" الطبيعة، بمعنى تحرضها. لهذا أصبحت الفلاحة اليوم
عبارة عن صناعة ممكنة للتغذية. يُطلب الهواء لتقديم الآزوط والأرض من أجل
المعادن، وتلتمس المعدن مثلا للحصول على الأورانيوم، وهذا الأخير من أجل
الطاقة الذرية، التي يمكن تسخيرها إما من أجل غايات التدمير أو للاستعمال
السلمي.
إن فعل الالتماس الذي يستفز الطاقات الطبيعية ويحرضها يمكن
اعتباره بمثابة "تقديم" بمعنى مزدوج. إنه يقدم باعتباره يفتح ويوضح. مع
ذلك فهذا التقديم هو تقديم يشير مسبقا إلى كونه يقدم شيئا آخر، أي يدفعه
إلى الأمام من أجل استعماله النهائي وبأقل كلفة ممكنة. إن الفحم المستخرج
من الحوض لا "يوضع هناك" ليبقى ببساطة هناك، أو ليكون في أي مكان بل أنه
يخزن، وهذا يعني أنه يوضع في مكان تكون الحرارة الشمسية المختزنة فيه
"مسخرة" له. وهاته الأخيرة مدعوة إلى تسليم حرارة مرتفعة، تكون بدورها
مسخرة لتسليم البخار الذي يولد الضغط الناتج عنه حركة آلية تشغل مصنعا.
إن المحطة الكهربائية التي أقيمت في مكان ما بنهر الراين
ترغمه على تسليم ضغطه المائي الذي يرغم بدوره الآلات على الدوران. تعمل
هذه الحركة إذن على تدوير الآلة التي تنتج التيار الكهربائي الذي تبقى
المحطة الجهوية وشبكتها مسخرتين لغاية توصيله ونقله. في هذا النطاق تتسلسل
النتائج الواحدة بعد الأخرى، ابتداء من عملية وضع الطاقة الكهربائية،
لتظهر نهر "الراين" كشيء "مُسَخَّر". لم تُشيِّد المحطة على مجرى النهر
مثل القنطرة الخشبية القديمة التي تربط منذ قرون هذه الضفة بالأخرى، بل إن
النهر هو الذي حُبِس في المحطة. يكتسب النهر اليوم صفته كنهر، أي كممون
بالضغط المائي من ماهية المحطة. من أجل أن نرى ونقيس -ولو من بعيد- العنصر
المهول الذي يسود هنا، لنتوقف لحظة عند هذا التعارض الذي يظهر بين هذين
العنوانين: "الراين" أي النهر المحبوس في معمل للطاقة، و"الراين" كعنوان
لذلك العمل الفني الذي هو نشيد هولدرلين. لكن الراين يظل كما يقولون - هو
نهر المنظر. ليكن. لكن كيف بإمكانه أن يظل كذلك؟ إنه ليس سوى شيء نقدم له
طلبا. أو يكون موضوع زيارة منظمة من طرف وكالة للأسفار وقد أنشأت هنالك
صناعة خاصة بالعطل.
إن الانكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة يتخذ سمة مناداة أي
استفزاز وتحريض. لقد حدثت هذه المناداة عندما تحررت الطاقة المختفية في
الطبيعة، وما تم الحصول عليه بهذا الشكل ثم تحويله، وما تم تحويله تمت
مراكمته واختزانه، وما تمت مراكمته تم توزيعه، وما تم توزيعه تم خفضه
واستهلاكه من جديد. إن الأفعال: حصّل، وحول، وراكم، ووزع، وخَفَّض هي
أنماط للانكشاف. لكن هذا الانكشاف لا يحدث بسهولة ولا يضيع في اللامحدود،
بل إنه يكشف لذاته طرقه الخاصة، الملتوية، بكيفيات متعددة، وهو يكشفها من
حيث أنه يوجهها ويتحكم فيها. وهذا التوجه ذاته مضمون (ومؤمن ومؤكد).
فالتوجه والضمان (للتوجه) هي السمات الرئيسية للانكشاف الذي يقوم
بالتحريض.
أما الآن أي نوع من الانكشاف يلائم ما سيتحقق بالمناداة المحرضة؟
إن ما يتحقق بهذا الشكل يطلب منه أن يكون مسخرا للتو في
المكان المطلوب، وأن يكون موجودا فيه بشكل يجعله طوع تسخير لاحق.
إن الذي يكون هكذا مسخرا، له وضعه وثباته. هذا الوضع الثابت ندعوه الأساس أو المخزون (Bestand-fonds ). تعني كلمة الأساس ها أكثر من المخزون الاحتياطي (Stock )
والأشياء الأكثر ضرورة وأساسية. إن كلمة أساس هنا تتبوأ شرف العنوان. وهو
لا يميز شيئا أقل من الكيفية التي يحضر بها كل ما تم الحصول عليه بواسطة
الانكشاف الذي يحرض ويثير. إن ما هو هناك بمعنى أساس أو مخزون لم يعد
مواجها لنا كموضوع.
لكن ما القول في طائرة تجارية واقفة على أرضية المطار وقت
الإقلاع، إنها مع ذلك موضوع بكل تأكيد، نستطيع أن نتمثل الطائرة كما هي،
لكن نلاحظ أنها تخفي ما هي عليه والكيفية التي تكون عليها. في المدرج حيث
هي واقفة، لا تنكشف كمخزون إلا بقدر ما تكون مسخرة لتأمين إمكانية نقل.
لذا ينبغي أن تكون قابلة للتسخير، أي مستعدة للتحليق، وعليها أن تكون كذلك
في كل تركيباتها وفي كل أجزائها. (لنتطرق هنا للتعريف الهيجلي الذي يعتبر
الآلة أداة مستقلة). سيكون الحكم صائبا من وجهة نظر الأداة الحرفية
اليدوية التقليدية. لكن ما نلاحظه هو أن هذا الحكم لم يفكر في الآلة
انطلاقا من ماهية التقنية التي ترتكز عليها هذه الآلة. من وجهة نظر المخزون
تبقى الآلة تابعة حتما، لأنها تستمد كينونتها من تسخيرها لشيء آخر قابل
للتسخير بدوره.
إذا كنا، في هذه اللحظة التي نحاول فيها أن نبين التقنية
كانكشاف يحرض، نلاحظ أن التعابير: "نادى" و"سخر" و"مخزون"، تفرض نفسها
علينا بطريقة جافة ووحيدة الشكل أي مزعجة، فإن لهذا الفعل ما يبرره في
الذات التي يتعلق بها الأمر.
من يقوم بهذه المناداة المحرضة، التي عن طريقها ينكشف ما
نسميه الواقع على شكل أساس ومخزون؟ إنه الإنسان بالطبع. لكن في أي مجال
يستطيع الإنسان أن يقوم بمثل هذا الكشف؟ يمكن للإنسان بدون شك، وبهذه
الكيفية أو تلك، أن يتمثل أو يضع هذا الشيء أو ذاك، أو يتعاطى معه. لكنه
لا يمكنه قط أن يتحكم في أشكال الظهور والاختفاء التي يظهر فيها الواقع أو
ينسحب. إذا كان "الواقع، منذ أفلاطون، يتجلى من خلال نور الأفكار فإن
السبب لا يعود إلى أفلاطون، بقدر ما يكون المفكر قد استجاب فقط لما انكشف
له، وفقط بقدر ما يجد الإنسان نفسه مدفوعا إلى تحرير طاقات الطبيعة يحدث
هذا الانكشاف (أو الانكشاف) الذي يقوم بعملية التسخير".
إن الكيفية التي نتحدث بها عادة عن الموارد البشرية، أو عن
عدد مرضى عيادة طبية، يوحي لنا بهذا التصور. إن حارس الغابة الذي يقيس
الخشب المقطوع، والذي يتبع -ظاهريا- نفس الطرق ونفس الأساليب التي قام بها
جده، هو اليوم، علم بذلك أم لا، مسخر من طرف قطاع صناعة الخشب. وهو مسخر
لأنه يعمل على جعل السيليلوز قابلا للتسخير، وهذا الأخير تستدعيه طلبات
الورق من طرف الجرائد والمجلات المصورة. هذه المجلات تنادي وتدعو بدورها
الرأي العام ليتشرب الأشياء المطبوعة حتى يتسخر هو ذاته لصوغ وتكوين الرأين
استجابة لطلبية تم التوصل بها في هذا الشأن. ولكن بما أن الإنسان مدعو،
وبطريقة أكثر أصالة من الطاقات الطبيعية، مدعو "للتسخير" فإنه لا يصبح
أبدا مخزونا خالصا. إن الإنسان بتعاطيه للتقنية، يشارك في التسخير وكأنه
شكل من أشكال الكشف. لكن عدم الاختفاء ذاته، الذي يحدث داخله فعل التسخير،
ليس من فعل الإنسان ومن اختصاصه، مثله في ذلك مثل الميدان الذي يخترقه
الإنسان أو أقل، وذلك كلما تعلق -من حيث هو ذاته- بموضوع.
أين وكيف حدث الانكشاف، إن لم يكن من فعل الإنسان؟
علينا ألا نبحث عن الجواب بعيدا. من الضروري فقط أن نتلقى
وبدون سابق إعلام ذلك الذي طالب الإنسان دوما في كلمة موجهة إليه، وبكيفية
مؤكدة، بأنه لا يستطيع أن يكون إنسانا إن لم يكن هو الكائن الذي يوجه
إليه مثل هذا الكلام. هكذا فأينما فتح الإنسان عينه وأذنه وقلبه وأينما
تعاطى للفكر وارتبط بغاية، أينما شكل وألف، طلب وتشكر، فإنه يجد نفسه
منساقا قبليا داخل اللامحجوب. إن لا احتجاب هذا الأخير قد حدث بصورة
قبلية، كلما دعت الإنسان وأدخلته ضمن أنماط الانكشاف التي هي مستندة له
ومقاسة على مقاسه. حين يكشف الإنسان داخل الحقيقة، وبطريقته الخاصة ما هو
حاضر، فإنه لا يقوم سوى بالاستجابة لنداء الحقيقة، حتى ولو تناقض مع هذا
النداء. هكذا عندما يقتفي الإنسان الباحث أثر الطبيعة ويعتبرها كمجال
لتمثلاته، فإنه يكون حينئذ مطالبا مسبقا من طرف نمط من الانكشاف الذي يحث
الإنسان على التعامل مع الطبيعة كموضوع للبحث إلى درجة يختفي فيها الموضوع
هو أيضا في "لا موضوع" الأساس المخزون.
هل يمكن اعتبار التقنية الحديثة، بما هي انكشاف مسخر، فعلا
إنسانيا خالصا؟ لذلك علينا أن نقبل هذا التحريض كما يتجلى، هذا التحريض
الذي يجعل الإنسان مستعدا لتسخير الواقع كمخزون، هذا التحريض يجمّع
الإنسان في فعل التسخير. مثل هذا "الجامع" هو الذي يجعل الإنسان يقوم
بمهمة تسخير الواقع أساس وكمخزون.
إن الذي ينشر، بشكل أصيل الجبال في خطوط ويخترقها على شكل تجميع للثنايا، هو "الجامع" الذي نسميه الجبال.
إ ذاك الذي يجمع أنماط مزاجنا بشكل أصيل هو ما نسميه القلب.
أما الآن فهذا النداء المحرض الذي يجمّع الإنسان حول مهمة لتسخير التعامل
مع ما ينكشف على أنه مخزون نسميه الاستفسار(1) (Arraisonnement ). إننا نخاطر باستعمال كلمة تفتيش بمعنى لم يكن متداولا إلى الآن. حسب الدلالة العادية تعني كلمة Ges-tell موضوع استعمال مفيد كرف لحمل الكتب مثلا. الهيكل العظمي يسمى هو أيضا باسم Ges-stell . يبدو استعمال كلمة Ges-tell
هنا المطلوب منا أمرا مهولا مثل هذا الهيكل العظمي وذلك حتى لا نقول شيئا
عن التعسف والاعتباطية التي تعامل بها ألفاظ لغة مكتملة معاملة سيئة. هل
بإمكاننا أن ندفع هذه الاعتباطية إلى أبعد حد؟ بكل تأكيد لا. غير أن هذه
الاعتباطية هي استعمال عرفي قديم للفكر. والحق أن المفكرين يتلاءمون معه،
خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتفكير فيما هو عظيم. أما نحن الذين وصلنا
متأخرين فإننا لا نستطيع أبدا أن نقيس أهمية الفعل الذي تجرأ به أفلاطون
على استعمال كلمة "الصور" (أيدوس) لهذا الذي ينشر كينونته في الكل وفي كل
شيء على حدة. إذ إنها باللغة اليومية تعني المظهر الذي يقدمه شيء مرئي
لعيننا الجسمية. مع ذلك يطلب أفلاطون شيئا جديدا تماما من كلمة صورة لتعني
بالتدقيق، ما ليس كائنا وما لا يمكن أن يدرك أبدا لعيون الجسم. لكن ولو
بهذه الطريقة في التعبير، فإننا لم ننته بعد مع ما هو مدهش. لأن الصورة
(ايديا) (أو الفكر) لا تعني فقط الهيأة اللامحسوسة للشيء الذي يكون مرئيا
بالحواس، أي الشيء الذي يشكل ماهية ما يمكن أن نسمعه، أو نلمسه أو نشمه،
أو أي شيء يسهل بلوغه: هذا الشيء يسمى مظهرا أو ايديا وهو موجود كذلك. إذا
قارنا بين ما يطلبه أفلاطون هنا وفي حالات أخرى، من اللغة والفكر، وبين
الاستعمال الذي نقوم به نحن الآن بكلمة Ges-tell لتشير إلى ماهية التقنية الحديثة سيبدو استعمالا غير مؤذ تقريبا، لكنه يبقى مطلبا ضروريا يقود إلى سوء التفاهم.
هكذا نسمي بالاستفسار مجموع هذه المساءلة والاستنطاق الذي
يطالب الإنسان، أي يحرضه على كشف الواقع كمخزون قابل للتسخير والاستعمال.
هكذا نسمي شكل الانكشاف الذي يسود ماهية التقنية، والذي ليس هو ذاته شيئا
تقنيا. في مقابل ذلك فإن ما يشكل جزءا مما هو تقني هو ما نعرفه عن:
السيقان، مكباس لمحرك، الأخشاب المعدة للبناء، أي الأجزاء المكونة لما
ندعوه بمركب صناعي مثلا. مع ذلك فالمركب والأجزاء المذكورة المكونة له
تدخل في نطاق العمل التقني الذي يستجيب دائما للتحريض الذي يمارسه
الاستفسار، لكنه ليس أبدا هو هذا الأخير بل إنه لا ينتجه.
في التسمية: الاستفسار نجد أن الفعل Stellen (وضع-أظهر) لا يعني التحريض فحسب، بل أنه عليه أن يحتفظ في نفس الوقت، بصدى فعل آخر اشتق منه وهو الفعل "Her-stellen " (الذي يعني "وضع الشيء منتصبا أمام"، "صنع") المرتبط بالفعل: "Dor-stellen "
(الذي يعني: "وضع أمام العين" "عرض") والذي يجعل الشيء الحاضر في عدم
التحجب. إن هذا الإنتاج الذي يظهر مثلا على انتصاب تمثال في قلب المعبد،
والتسخير أو التحريض الذي نتحدث عنه الآن، هما بلا شك، مختلفان اختلافا
جذريا، ومع ذلك يظلان واضحين في كينونتهما، لأنهما كليهما نمطان للانكشاف
أي للحقيقة (بمعنى الاليتيا).
من عملية الاستفسار يحدث هذا اللاتحجب الذي يكشف عمل التقنية الحديثة وفقا له الواقع كمخزون ومستودع.
وبالإضافة إلى ذلك أليست التقنية الحديثة لا فعلا إنسانيا
ولا مجرد وسيلة ملازمة لمثل هذا الفعل؟ إن التصور الأداتي المحض
والانتروبولوجي المحض للتقنية يصبح ساقطا من حيث المبدأ ولن نستطيع إتمامه
بتفسير ميتافيزيقي أو ديني نلحقه به بسهولة.
ومع ذلك فإنه يظل من الصائب أن إنسان عصر التقنية مدعو إلى
الكشف بطريقة مثيرة. يتعلق الكشف أولا بالطبيعة من حيث أنها أهم احتياطي
لمستودع الطاقة. وبصورة مقابلة فإن السلوك "المسخر" للإنسان يتجلى أولا في
ظهور علم الطبيعة الحديث والدقيق. ونمط التمثل الخاص بهذا العلم يتابع
بدقة الطبيعة منظورا إليها كمركب قوي قابل للحساب. وليست الفيزياء الحديثة
فيزياء تجريبية لأنها تطبق على الطبيعة أجهزة لمساءلتها، بل على العكس من
ذلك: فكون الفيزياء -كنظرية خالصة- تجبر الطبيعة على أن تظهر نفسها كمركب
قوي قابل للحساب والتنبؤ، هو ما يجعل التجريب مسخرا لمساءلتها
واستنطاقها، حتى نعرف متى وكيف تستجيب، وبأية كيفية قد تخضع الطبيعة
وتستجيب تحت طائلة الادغام لهذا النداء.
لكن العلم الرياضي للطبيعة قد ولد قبل التقنية الحديثة
بقرنين من الزمن. فكيف يمكن أن يكون قد وضع مسبقا في خدمة التقنية؟ إن
الوقائع تثبت العكس. ألم تخط التقنية الحديثة خطواتها الأولى فقط عندما
استطاعت الارتكاز على علم الطبيعة الدقيق؟ من وجهة نظر حسابات علم
"التاريخ" يزل الاعتراض صحيحا. لكن إذا فكرنا فيه بمعنى التاريخ فسيكون
غير حقيقي.
إن نظرية الطبيعة، التي أعدتها الفيزياء الحديثة، قد هيأت
الطريق لا للتقنية بالدرجة الأولى، بل لماهية التقنية الحديثة. لأن
التجميع الذي يحرض ويقود إلى الانكشاف المسخر وهو الذي يسود الفيزياء،
لكنه لم يصل فيها بعد إلى إظهار ذاته. إن الفيزياء الحديثة هي رائدة
الاستفسار، وهي رائدة ما زالت مجهولة من حيث أصلها.
ما زالت ماهية التقنية مختفية، وستبقى كذلك مدة طويلة، حتى
ونحن نخترع المحركات، وحيث تجد كل من التقنية الإلكترونية وتقنية الذرة
طريقهما. إن كل ما هو جوهري، لا فقط ماهية التقنية وحدها، يبقى منزويا
ومختفيا لأطول مدة ممكنة. وهو يبقى كذلك تحت قوتها التوجيهية، إنه يبقى
سابقا لكل شيء: أي لهذا الذي ينحدر من الأزمنة الأولى. كان لدى المفكرين
اليونان بعض المعرفة بحالة الأشياء هذه عندما قالوا: "مبكرا ينفتح شيء ما
ويمارس قوته، وبعد ذلك يظهر ذاته لنا نحن معشر البشر"، إن الفجر الأصلي لا
يظهر للإنسان إلا في آخر المطاف. وهكذا فإن السعي في مجال الفكر للنفاد
بطريقة أولية، فيما فكر فيه منذ البداية، ليس مفعول إرادة عبثية لإحياء
الماضي، بل هو نتيجة تهيؤ هادئ نكون فيه مستعدين للاندهاش تجاه ما انحدر
إلينا من الفجر الأول.
لقد ابتدأ العلم الحديث للطبيعة، حسب تسلسل حقب "التاريخ"،
في القرن السابع عشر. وعلى عكس ذلك فإن التقنية ذات المحركات لم تتطور،
قبل النصف الثاني من القرن الثامن عشر. بيد أن ما هو متأخر بالنسبة
للملاحظة "التاريخية"، أي التقنية الحديثة، هو السابق في التاريخ، نقصد
بالتاريخ هنا الماهية الكامنة والمتحكمة فيه.
إذا كان ينبغي على الفيزياء الحديثة أن تتلاءم مع كون مجال
تمثلها يفلت من كل حدس، فإن هذا التخلي لم يُمْلَ عليها من طرف لجنة من
العلماء. بل إن هذا التخلي ولدته سلطة الاستفسار الذي يطالب الطبيعة بأن
تكون مسخرة "كمستودع ومخزون". لذا فكيفما كانت الحركة التي بمقتضاها تبتعد
الفيزياء عن نمط تمثلها الخاص المتجه نحو الموضوعات، وهو النمط الذي ما
يزال سائدا الآن، فإن هناك شيئا لا يمكن أبدا أن تتخلى عنه: هو أن الطبيعة
تستجيب للنداء بأية طريقة كانت، لكنها طريقة محكومة بواسطة الحساب ومجبرة
على أن تظل مسخرة كمنظومة من المعلومات. تتحدد هذه المنظومة ابتداء من
تصور عن العلية تم تعديله. وهذه العلية لا تقدم الآن لا سمة "الاستحضار
المنتج" ولا نمط العلة الفاعلة، ولا فضلا عن ذلك نمط العلة الصورية، تبدو
العلية وكأنها تنكمش لتصبح إشعارا محرضا للمخزون الذي ينبغي وضعه دائما في
مأمن أو مرة تلو أخرى. هذا الاختزال للعلية يتلاءم مع عملية التلطيف
المتزايد للادعاءات، كما سبق لهايزنبرغ أن عرض هذه المسألة في محاضرته:
"صورة الطبيعة في الفيزياء المعاصرة".
بما أن ماهية التقنية الحديثة تكمن في الاستفسار، فإن على
التقنية أن تستعمل علم الطبيعة الدقيق. من هنا ينشأ المظهر الخادع القائل
بأن التقنية الحديثة هي العلم الطبيعي مطبقا. وسيستمر هذا المظهر طالما لم
نسائل، بما فيه الكفاية وبالتالي لم نكشف، لا عن الأصل الأساسي للعلم
الحديث، ولا أقل ممن ذلك عن ماهية التقنية الحديثة.
نتساءل عما هي التقنية من أجل أن نسلط الضوء على صلتنا
بماهيتها. ماهية التقنية تظهر فيما سميناه بالاستفسار غير أن إبراز ذلك لا
يستجيب بتاتا للسؤال المتعلق بالتقنية، هذا إذا كان الفعل "استجاب" يعني
أن يتوافق وماهية الشيء المطروح في السؤال.
أين وصلنا الآن إذا ما تقدمنا خطوة أخرى في تأمل ماهية
الاستفسار ذاته بما هو كذلك؟ إنه ليس بشيء تقني، إنه لا يماثل الآلة في أي
شيء. الاستفسار هو النمط الذي يكشف الواقع نفسه، تبعا له، كمخزون. نتساءل
أيضا: هل سبق - لهذا الانكشاف أن حدث بعيدا عن أي فعل إنساني؟ الجواب
بالنفي. ومع ذلك فهو لم يحدث في الإنسان وحده ولا بواسطته بصورة حاسمة.
الاستفسار هو ما يجمع هذه المساءلة، ما يجعل الإنسان على
استعداد ليكشف الواقع كمخزون قابل "للتسخير". إن الإنسان من حيث إنه محرض
فإنه يقع هو نفسه في الميدان الأساسي للاستفسار. وليس بمقدور الإنسان أبدا
أن يتحمل، مباشرة، علاقة معه، وذلك لأن السؤال عن معرفة كيف نستطيع
الدخول في علاقة مع ماهية التقنية، سؤال يأتي دوما متأخرا. لكن هناك سؤال
لن يأتي أبدا متأخرا وهو: هل نعي صراحة أنفسنا على أننا هم أولئك الذين
يكونون سواء بالفعل، أو بالإمكان، وأينما كنا، بطريقة مفتوحة أو مستورة
محرضين من طرف الاستفسار. هذا السؤال عن معرفة متى وكيف ندخل نحن أنفسنا في
مجال كينونة الاستفسار ذاته سؤال لا يأتي أبدا متأخرا.
تضع ماهية التقنية الحديثة الإنسان في طريق، هذا الانكشاف
الذي بواسطته، وبطريقة غير مدركة بوضوح، يصبح الواقع مستودعا ومخزونا. وضع
في الطريق، يعني: أرسل. هذا الإرسال الذي يجمع، والذي يستطيع وحده أن يضع
الإنسان على طريق الكشف والانكشاف، نسميه المصير. انطلاقا من هذا المصير
تتحدد ماهية كل تاريخ. ليس التاريخ هو موضوع علم "التاريخ" فحسب، كما أنه
ليس فقط اكتمال الفعالية الإنسانية. وهذه الفعالية لا تصبح تاريخية إلا
عندما تكون في علاقة مع تهيئة المصير وإعداده. (انظر: "في ماهية الحقيقة"
1930 الطبعة الأولى 1943 الصفحة 16
وما يليها). وفقط عندما "يرسلـ"ـنا المصير ويضعنا في نمط التمثل الذي
يحول كل شيء إلى موضوع، فإنه يجعل ما ينتمي إلى التاريخ أمرا قابلا
للتناول كموضوع "لعلم التاريخ"، أي لعلم من العلوم، ويجعل من الممكن
-انطلاقا من ذلك- مماثلة ما هو تاريخي بما ينتمي لعلم التاريخ.
إن الاستفسار بما هو تحريض على التسخير يحيل إلى نمط الكشف
والانكشاف. إن الاستفسار، ككل نمط من أنماط الانكشاف، مبعوث من طرف
المصير. وبهذا المعنى أيضا يمكن أن نعتبر الإنتاج كمصير.
إن عدم إخفاء ما هو كائن يتّبع دوما طريقا للانكشاف. إن
الإنسان، في كل كينونته، دوما محكوم من طرف مصير الانكشاف. لكن المسألة
ليست أبدا مسألة قدر قسري. إذ إن الإنسان لا يصبح حرا إلا بقدر ما يكون
مندرجا في ميدان المصير، وبذلك يصبح إنسانا ينصت لا قِنّاً يؤمر.
إن ماهية الحرية ليست خاضعة أصليا للإرادة، وأقل من ذلك فهي ليست فقط خاضعة لعلية الإرادة الإنسانية.
تسود الحرية إذن كل ما هو حر، أي كل ما هو مستضيء أي منكشف.
إن فعل الكشف والانكشاف، أي الحقيقة، هو الفعل الذي تتحد به الحرية بأكثر
الصلات قربا وحميمية. وكل انكشاف ينتمي إلى الاستظلال والاحتجاب. لكن
الذي يحرر، أي السر، هو دوما مختف وفي طور الاختفاء. وكل انكشاف ينحدر مما
هو حر ويسير نحو ما هو حر ويقود نحو ما هو حر. إن حرية ما هو حر لا تقوم
لا في العشوائية ولا في الخضوع لمجرد قوانين. إن الحرية هي ما يخفي وهو
ينير، والذي يسبح في وضوحه هذا الحجاب الذي يخفي الكينونة العميقة لكل
حقيقة، ويظهر الحجاب على أنه هو بمثابة ما يخفي. إن الحرية هي ميدان المصير
الذي يضع في كل مرة انكشافا في الطريق.
تكمن ماهية التقنية الحديثة في الاستفسار، وهذا الأخير جزء
من مصير الانكشاف: هذه القضايا تقول شيئا آخر غير التأكيدات التي نسمعها
كثيرا، والتي تعتبر التقنية بمثابة قدر لعصرنا، حيث تعني كلمة قدر هنا كل
ما هو محتم في سيرورة لا يمكن تعديلها.
وعكس ذلك فعندما ننظر إلى ماهية التقنية يظهر لنا الاستفسار
كمصير للانكشاف. وهكذا فنحن نقيم من قبل في العنصر الحر للمصير، هذا
المصير الذي لا يحبسنا البتة في قسر كئيب ولا يرغمنا على الخضوع للتقني
بخنوع أو (هو نفس الشرح) على أن نتمرد عليها بدون جدوى وأن نحكم عليها
كعمل شيطاني. بل بالعكس، عندما ننفتح على الخصوص على ماهية التقنية نجد
أنفسنا وبطريقة غير متوقعة مأخوذين ضمن نداء محرِّر.
تكمن ماهية التقنية في الاستفسار الذي تشكل قوته جزءا من
المصير. يضع هذا الاستفسار الإنسان في كل مرة على طريق الانكشاف. وبما أنه
وضع على هذا الطريق فالإنسان يتقدم باستمرار نحو هذه الإمكانية: هي أن
يعمل على تطوير هذا الذي انكشف له في "التسخير"، وعليه بالتالي أن يأخذ كل
احتياطاته بدءا من هذه الوضعية. وهكذا تنغلق أمامه إمكانية أخرى: هي أن
يتجه، وبطريقة أصيلة دوما نحو كينونة ما هو غير مختف، ونحو عدم تحجبه،
ليدرك ويرى انتماءه للكشف والانكشاف (وهو الانتماء الذي يمسك به بين يديه)
كأنه هو ماهيته الخاصة.
إن الإنسان من حيث أنه يقع بين هاتين الإمكانيتين معرض
لتهديد يكون المصير منطلقه. إن مصير الانكشاف بما هو كذلك، هو إذن
وبالضرورة، وفي كل أنماطه خطر.
مهما تكن الطريقة التي يمارس بها مصير الانكشاف قوته، فإن
اللاتحجب (الحقيقة) الذي يظهر فيه في كل مرة ما هو كائن، يكشف عن خطر كون
الإنسان يخطئ بخصوص اللامحجب ويؤوله تأويلا سيئا. وهكذا فهناك حيث يتجلى
كل ما هو حاضر في ضوء الارتباط: علة - نتيجة، يمكن أن يفقد الإله ذاته (في
التمثل الذي نكونه عنه) كل ما له من قدسية وسمو، وكل ما في ابتعاده
وتعاليه من سر وغموض، هكذا يأخذ الإله، تحت ضوء العلية، صورة علة فاعلة
لنجده قد أصبح داخل اللاهوت هو إله الفلاسفة، أي أولئك الذين يحددون الظاهر
والخفي حسب علية "الفعل" دون محاولة لاعتبار الأصل الجوهري لهذه العلية.
يمكن أن نقول نفس الشيء عن اللااختفاء الذي تنكشف الطبيعة
تبعا له كمفعول مركب قابل للحساب من القوي يمكن بدون شك أن يسمح بملاحظات
دقيقة، لكن وبالضبط بسبب هذه النجاحات، فإنها تبقى هي الخطر، خاصة حيث
يتخفى داخل كل هذه الدفة.
إن مصير الانكشاف ليس في حد ذاته خطرا من بين الأخطار، بل هو الخطر عينه.
لكن إذا كان المصير يسودنا على طريقة الاستفسار، فهو إذن
الخطر الأقصى. والخطر يظهر نفسه لنا من جهتين مختلفتين. عندما لا يكون
اللامختفي حتى مجرد موضوع للإنسان بل يتعلق به فقط كمحزون وأساس، وعندما
لا يكون الإنسان داخل ما هو بدون موضوع، سوى المسخر للمخزون الأساس، عندها
يتابع الإنسان طريقه على حافة الهاوية، بل نجد أنه سائر إلى الحد الذي لن
يعامل هو ذاته إلا كأساس ومخزون. والآن فإن الإنسان، وهو المعرض لهذا
التهديد، هو الذي يتغطرس وينصب نفسه سيدا للأرض.
وهكذا ينشأ، وينتشر المظهر القائل بأن كل ما نصادفه لا
يستمر إلا من حيث إنه من فعل الإنسان. هذا المظهر يغذي بدوره وهما أخَرَ:
يبدو لنا أن الإنسان وفي كل مكان لا يصادف إلا ذاته. لقد كان هيزنبرغ على
حق حين قال بأن الواقع لا يمكنه أن يظهر بشكل آخر لإنسان اليوم. غير أن
الإنسان اليوم يصادف ذاته في الحقيقة في أي مكان، أي أنه لا يصادف كينونته
في أي مكان. يتوافق الإنسان بطريقة مصممة مع التحريض الذي يمارسه
الاستفسار، بحيث لا يدرك هذا الأخير كنداء ملح وبحيث لا يرى ذاته على أنه
هو ذلك الكائن الذي يوجه إليه هذا النداء.
من ثمة تفلت منه كل الطرق التي تمكنه من أن يفهم كيف يوجد،
بحكم كينونته، وجودا تخارجيا في مجال نداء، ولماذا لا يستطيع إذن ألا
يصادف أبدا إلا ذاته.
لكن الاستفسار لا يهدد الإنسان وحده فغي علاقته بذاته وبكل
ما هو كائن. فمن حيث أنه قدر، فهو يحيل إلى هذا الانكشاف الذي يتخذ شكل
"تسخير". هناك حيث يهيمن هذا الانكشاف المسخر، فإنه يلغي كل إمكانية أخرى
للانكشاف. يخفي الاستفسار بخاصة هذا الانكشاف الآخر، الذي يُنتج ويُظهر
الشيء الحاضر. بمقارنته مع هذا الانكشاف الآخر، نرى أن الانكشاف الذي
يطالب ويستفز يسير في الاتجاه المعاكس لما هو كائن. هناك حيث يهيمن
الاستفسار، نجد أن إرادة وتأمين المخزون يطبعان كل انكشاف ببصماتهما.
إنهما تحولان حتى دون ظهور طابعهما الأساسي، أي هذا الانكشاف من حيث هو
كذلك.
لا يقتصر الاستفسار المحرض على إخفاء نمط سابق للانكشاف، أي
ينتجه، بل يخفي أيضا الانكشاف من
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مسألة التقنية مارتن هيدجر :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مسألة التقنية مارتن هيدجر

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: