** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 رصاص وعلمانيّة! قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

رصاص وعلمانيّة!  قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور  Empty
27092012
مُساهمةرصاص وعلمانيّة! قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور



رصاص وعلمانيّة!  قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور  Arton10906-b9a3d


17 مايو/ أيار 2006
كان
ربيع أنقرة كعهده دومًا، رذاذٌ خفيفٌ وشمسٌ دافئة؛ بقايا ثَلْجٍ تذوب في
صمت حول جذوع الأشجار العتيقة؛ أخلاطٌ من الناس، نساء ورجال وصبايا وشبّان
يحثّون الخطى نحو أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم متطلّعين إلى الصباح الجديد؛
والحَمام يملأ الساحات الفسيحة يبحث عن رزقه بين الأرجل العجلى والأقدام
المتسارعة.
فجأةً، دوّى صوت الرصاص في الساحة المطلّة على مجلس
الدولة الأعلى فانحنى العابرون في حركة عفويّة كأنّما يريدون الاحتماء من
شيء ما (شيء ما لم يعرف الأتراك له اسمًا فسمَّوْه المجهول!)؛ وطار الحمام
في الاتّجاهات كلّها مرتطما بالأرجل والأوجه والصدور غير عابئ بأحد في مشهد
يذكّرنا بشريط "العصافير" (1963) لألفريد هيتشكوك.. وفي غمرة التدافع
والخوف لم يفهم أحدٌ شيئا؛ وحدها الحيرة ارتسمت على الوجوه، وحده السؤال
ظلّ عالقًا في الهواء تحت الرذاذ الخفيف والشمس الدافئة: ما الذي يحدث في
ربيع أنقرة؟!


في تركيا، لا يخفى شيء إلاّ
ليُكْشَفَ بعد حين، فالأخبار في بلد السبعين مليون ساكن كالأفكار مطروحةٌ
في الطريق ويمكن أن يأتي بها من لم نُزَوِّدِ، ووسائل الإعلام (بفضل ما
توفّر لها من حريّة وحرفيّة) سرعان ما تنقضّ على الأحداث وتعلن عنها قبل أن
يرتدّ إليك طَرْفُكَ… فما بالك والحدث جَـلَلٌ والمكان جليل…
حدث جَلَلٌ؟ نعم! لأنّ روحًا أُزهقت ودماءً أريقت.
مكان جليل؟ أجل! وهل أجلُّ لدى الأتراك من مجلس الدولة الأعلى، أرقى هيئة قضائيّة في البلاد؟


أبدًا،
لم يكن الرصاص الذي لعلع في أنقرة صبيحة ذلك اليوم رصاصَ عصابات تتنازع
السيطرة على ساحة مجلس الدولة الأعلى.. كانت الطلقات تأتي من الداخل، من
إحدى القاعات التي يُفترض أنّها مُحصَّنة بسلطة القانون وهيبة الدولة… كان
رصاصًا باردًا لا أثر لرائحة البارود فيه… كان رصاصًا إيديولوجيًّا حادًّا
قاسيًّا لا رحمة فيه… كان رصاصًا من رصاص خالص لا يقبل الجدل… ولأنّه كذلك،
باتت تركيا ليلتها تحت وقع الصدمة تكفكف دموعها وتحاول الإجابة على السؤال
الحارق: كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟


ولكن، هل
تقدر الدموع على غسل الدماء بعدما وقع المحظور؟ فقد اقتحم المحامي الشابّ
ألبرسلان أرسلان Alparslan Arslan ذو التوجّه الإسلاموي مقرّ مجلس الدولة
الأعلى ووجّه فوهة مسدّسه نحو أعضاء الهيئة القضائيّة وأصاب القاضي مصطفى
إيزول أوزبنلغين Mustafa Yücel Özbilgin ذا الأربعة والستّين عامًا فأرداه
قتيلا وجرح أربعة من القضاة المنتصبين في الجلسة معه. ولم تكن للمحامي
الشابّ من حجّة في ما أقدم عليه إلاّ القصاص من الهيئة التي سبق لها أن
حكمت بمنع ارتداء الحجاب في المؤسّسات العموميّة التركيّة.


18 مايو/ أيار 2006
في
صبيحة اليوم الموالي، وبعدما قضّت وسائل الإعلام ليلتها في وصف ما حدث
بالقاعة الكبرى لمجلس الدولة الأعلى وفي التعليق عليه، تجمهر أكثر من خمسة
وعشرين ألفا من الأتراك في مكان لم يكن ليخطر على بال أحد…
كان
من الممكن أن يحتشدوا في الساحة المواجهة لمجلس الدولة الأعلى حيث وقعت
الجريمة…كان من الممكن أن يتجمّعوا في المقبرة التي سيدفن فيها القاضي
مصطفى إيزول أوزبنلغين…وكان من الممكن أيضا أن يتجمهروا أمام المستشفى الذي
يرقد فيه القضاة الأربعة الجرحى؛ ولكنّهم تَنَادَوْا إلى مكان آخر أكثر
رمزيّة، مكان يستبطن الأتراك كلّهم جلاله وقدره لأنّه بالنسبة إليهم حـدٌّ
جامعٌ وقاسم مشترك وإن شطّت بهم سبل الفكر واختلفت مسالك
الإيديولوجيا..إنّه مزار الزعيم القائد مصطفى كمال أتاتورك (ت.1938) رمز
الوحدة الوطنيّة الذي أريد له أن يكون فوق كلّ الصراعات (وإن كان -فعلاً-
في صميمها والقلب!)


وبصرف النظر عن المكان الذي
اختار الأتراك الاحتشاد فيه يوم الثامن عشر من مايو/أيار 2006 وعن الرمزيّة
التي يحفل بها ذلك المكان، فمن المؤكّد أنّ حادثة اليوم السابق كانت شديدة
الوقع على النفوس، بعيدة الأثر في الضمائر، لأنّ الرصاص الذي أطلق في مجلس
الدولة الأعلى والروح التي أزهقت فيه، والدماء التي تلطّخت بها الحيطان
تردّدت أصداؤه عبر أرجاء البلاد كلّها لتُطرح مجدّدا مسألةٌ ارتبطت ارتباطا
عضويّا بتاريخ تركيا الحديث، مسألة العلمانيّة.


ما أشبه اللّيلة بالبارحة!
انطلاقا
من حادثة كان من الممكن في سياق غير السياق التركيّ أن تمرّ مرور الكرام
تطرح الكاتبة أوموت آزاك Umut Azak مسألة العلمانيّة طرحًا بعيدًا كلّ
البعد عن الاعتبارات النظريّة الصرف، فهي تسترجع في الفصول الستّة التي قام
عليها كتابها "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة
الوطنيّة" (Islam and secularism in Turkey - Kamlism, religion and the
nation state ) وقائع قد تبدو في ظاهرها جزئيّة محدودةً تعبّر عن ردود
أفعال فرديّة طائشة ولكنّها في العمق وقائع مصيريّة لأنّها غيّرت مسار
التاريخ وحدّدت مواقف الشعب التركيّ من مسألة العلمانيّة.


أمّا
الواقعة الأولى التي خصّصت لها الكاتبة ولنتائجها وأبعادها ثلاثة فصول
(ص.21-84)، فقد جدّت أطوارها في 23 ديسمبر/كانون الأول 1930 بقرية مينيمان
(Menemen) في بلاد الأناضول حيث حلَّ شخصٌ مغمور غريب الأطوار ادّعى أنّه
"المهديّ المنتظر" واتّخذ له كلبا سمّاه "قطمير" وجمع حوله ستّة من الأتباع
وتشبّه بأهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن (سورة الكهف، 18/9-26). وبعد
أيّام وليالٍ قضّاها أفراد الجماعة هائمين على وجوههم يتعاطون الحشيش
ويقيمون حلقات الذكر قرّروا "المجاهرة بالدعوة" فمَضَوْا إلى ساحة
الجمهوريّة وسط القرية، وحين تصدّى لهم ضابط الاحتياط مصطفى فهمي كابولاي
Mustafa Fehmi Kubilay (1906-1930) قام "المهدي المنتظر" بذبحه على رؤوس
الملأ، وعلّق رأسه على عصا تحمل راية خضراء وسط تهليل الجماهير المتشنّجة
وتكبيرها…
لم يكن مصطفى فهمي كابولاي عسكريّا بأتمّ معنى الكلمة،
كان مدرّسا من حَمَلَةِ القلم، أي أحد أفراد هذه النخبة التي شرعت الدولة
التركيّة الحديثة في تكوينها وأوكلت إليها مهمّة تنوير العقول المتعطّشة
إلى العلم والمعرفة، ولكنّ القدر شاء أن يؤدّي واجب الخدمة العسكريّة بصفته
ضابط احتياط في قرية مينمان. وقد أدّى الواجب فعلاً دون أن يحمل سلاحًا أو
بندقيّة، ودون أن يطلق رصاصة واحدة؛ وغاية ما قام به دعوته الجماهير
المحتشدة حول "المهديّ المنتظر" إلى التفرّق وملازمة بيوتهم، فكان مصيره
الذبح بمنشار!!




أكثر من ثمانين
سنةً مرّت الآن على حادثة مينيمان، ولكنّ دماء مصطفى فهمي كابولاي ما زالت
تنزف، تمامًا كحشرجاته وهو الذي لم يتصوّر يومًا أن يلقى ربّه مذبوحًا بتلك
الطريقة البشعة. وما كان للدماء أن تَـعْـلَـقَ في الأفئدة، وللحشرجات أن
تتردّد في الآذان لولا إقدام "النخبة السياسيّة في أنقرة على تحويل تمرّد
مينمان إلى رهان وطنيّ وأداة دعائيّة رسميّة" (ص. 31) إلى درجة أضحت فيها
صورة مصطفى فهمي كابولاي أيقونة تختزل العلمانيّة في مختلف أبعادها
ورهاناتها.
ولمزيد تحليل هذه الفكرة لم تكتف الكاتبة أوموت آزاك
بترديد ما يُلقّن للناشئة في كتب التاريخ المدرسيّة ولم تقف عند حدود
الرواية الرسميّة للحادثة، بل بيّنت السياقات التاريخيّة والسياسيّة
والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي حفّت بما سُمِّيَ رسميّا "تمرّد مينمان" أو
"حادثة كابولاي"، وانتهت إلى أربع نتائج أساسيّة:


أولاها:
أنّ الحادثة المذكورة قد أتاحت للدولة التركيّة (منذ زمن مبكّر سابق لظهور
ما نسمّيه اليوم "الإرهاب") أن تُعلِّمَ مواطنيها كيفيّة "حماية
الجمهوريّة اللاّئكيّة من أعداء الداخل، أي من المتعصّبين دينيّا" (ص. 44)
فغرست في نفوسهم خوفًا دائمًا من كلّ مظاهر التديّن المغالي أو العنيف
(ص.38)، ومن خلال هذا الخوف الذي تأصّل تدريجيّا أمكن للعلمانيّة أن تتكرّس
باعتبارها صيغة من صيغ سياسة الماضي والمقدّس في إطار يحافظ على توازن
البناء الاجتماعي وسلطة الدولة ذات الحزب الأوحد حزب الشعب الجمهوريّ الذي
احتضن النخبة الكماليّة وظلّ مهيمنًا على الساحة السياسيّة إلى أواخر
الأربعينات من القرن العشرين.


ثانيتها: أنّها
رسمت في وعي المواطنين صورتَيْن متقابلَتَيْن عن المسلم: صورة "المسلم
الصالح"، هذا الذي يحترم الدولة وقيم الجمهوريّة والحياة المدنيّة، وصورة
"المسلم الطالح"، هذا الذي يعتبر لائكيّة الدولة مدعاةً إلى معاداتها
والخروج عليها بتعلّة أنّها ضدّ الدين بإطلاق.


ثالثتها:
أنّها أتاحت للجمهوريّة (في حياة مصطفى كمال أتاتورك وحتّى بعد مماته سنة
1938) أن تتقدّم خطوةً إثر أخرى في مواجهة من اعتُبِروا آنذاك ممثّلين
لـ"قوى الردّة المعادية للثورة والوطن". وفي ظلّ نظام سياسيّ قوامه الحزب
الأوحد، استطاعت النخبة السياسيّة، ومن ورائها عموم القوى الاجتماعيّة أن
تصفِّيَ تركة الحقبة العثمانيّة من خلال محاربة كلّ مظاهر الدجل والشعوذة
ممثّلة في دراويش الطريقة النقشبنديّة وسائر الطرق الصوفيّة التي أقدم
النظام على اجتثاثها.


رابعتها: (وهي الأهمّ)
اعتماد الكماليّين سياسةً يمكن أن نطلق عليها تسمية "سياسة فكّ الارتباط"،
وملخّص هذه السياسة قطع الدولة التركيّة الحديثة كلّ صلة يمكن أن تجمعها
بـ"الإسلام العربيّ" أو تذكّرها به. فقد حرص حزب الشعب الجمهوريّ على إقرار
"إسلام تركيّ" فرديّ في منزعه، عقلانيّ في توجّهه، مستنير في مضامينه،
وطنيّ في أسسه وفي الأرضيّة التي ينهض عليها.


ولم
يكتف المجلس التأسيسيّ - ببادرة من زعماء حزب الشعب الجمهوريّ- بالتخلّي
عن الأحرف العربيّة في كتابة اللّغة التركيّة وتعويضها بالأحرف اللاّتينيّة
في 01 نوفمبر/تشرين الثاني 1928، بل فرض اعتماد اللّغة التركيّة في إقامة
الأذان وقراءة القرآن والصلوات وخطبة الجمعة من سنة 1932 إلى سنة 1950،
بحجّة أنّ من حقّ الأتراك "أن يفهموا القرآن الكريم في لغتهم الوطنيّة"
(ص.71)، وأنّه من غير المقبول تأدية الشعائر والصلوات في لغة قد يكون
بمقدور الأتراك النطق بها ولكنّهم لا يفهمون معانيها ولا يمكن أن يتّخذوها
وسيلة للتقرّب من الذات الإلهيّة.




ومثلما
طبع "تمرّد مينيمان" أو "حادثة كابولاي" العلمانيّةَ التركيّةَ بأن حدّد
مضامينها ووجّه مواقفها في ظلّ نظام الحزب الكماليّ الأوحد، حزب الشعب
الجمهوريّ، كان للحادثة التي عُرفت باسم "حادثة مالاتيا" (Malatya)
أَثَرُهَا، هي أيضًا، في توجيه مسار العلمانيّة التركيّة. ففي ليلة الثاني
والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1952، وبينما كانت تركيا تستنشق نسائم
التعدّديّة الحزبيّة بظهور تنظيمات سياسيّة جديدة تنافس الحزب الكماليّ
الأوحد، حزب الشعب الجمهوريّ، أطلق مجموعة من الأشخاص من ذوي التوجّهات
الإسلامويّة خمس رصاصات على الصحفيّ أحمد أمين يلمان Ahmet Emin Yalman
(1888-1973) ولكنَّ أيًّا منها لم تُصِبْهُ في مقتل ولكنّها أصابت في
المقابل الحياة السياسيّة الجديدة التي ظهرت فيها أصوات تؤمن بالديمقراطيّة
والتعدّدية وتنادي بهما. وقد كان صوت الصحفيّ أحمد أمين يلمان أحد أبرز
هذه الأصوات ولكنّ صدى أفكاره لم يُعجب البعض، فقد عُـدَّ "كافرًا، خائنًا،
عميلاً أمريكيًّا، أو شيوعيًّا" (ص.90). باختصار، أصبحت مقالاته الصادرة
تباعا في جريدته "الوطن" -في نظر الإسلامويّين الحركيّين- مصدر إزعاج. وذلك
ما اتّضح خلال الجلسة التي وقف فيها المتّهم حسين يوزماز ( Hüseyin Üzmez )
أمام القضاء لبيان دوافعه من وراء الجرم الذي أقدم عليه، فقد اكتفى هذا
الشابُّ اليافع بالقول إنّ "مقالات يلمان كانت تصدم معتقداته الدينيّة"
(ص.91)، ولأنّ أفكار الصحفيّ بدت له كذلك، كان من "الواجب شرعًا" أن تتمّ
تصفيته وكتم صوته.


إنّهم يطلقون الرصاص في الهواء الطلق!
خمس
رصاصات أطلقت على أحمد أمين يلمان في مالاتيا.. خمس رصاصات أراد مطلقوها
أن يُخرسوا إلى الأبد صوت "الوطن"، "الوطن" الجريدة، والوطـن تركيا التي
بدأت تخطو خطواتها الأولى على طريق الديمقراطيّة والتعدّديّة الحزبيّة.
ولكن، هل يقدر الرصاص، حقًّا، على كتم الأصوات؟ هل يستطيع، فعلاً، أن يكمّم
الأفواه وأن يمنع الأفكار من أن تنضج وأن تنتشر عبر الهواء، بل مثل
الهواء؟


قطعًا لا! فقد دشّنت تركيا، بالرغم من
حادثة مالاتيا (وربّما بسبب تلك الحادثة بالذات) عهدًا علمانيّا جديدًا
طبعته ثلاث خصائص أساسيّة:
أولاها: ترسّخ الديمقراطيّة نهجًا في
إدارة الشأن السياسيّ العامّ من خلال الاحتكام إلى الإرادة الشعبيّة كما
عبّرت عنها وترجمتها الانتخابات.
ثانيتها: القبول بالتداول
السلميّ للسلطة والقطع مع منطق الحزب الأوحد، حزب الشعب الجمهوريّ الذي خسر
الانتخابات في 14 مايو/أيار 1950 مفسحًا المجال للحزب الديمقراطيّ الذي
وجد الناخبون في أطروحاته خير مُعبِّرٍ عن تطلّعات فئة اجتماعيّة جديدة،
فئة الوطنيّين المحافظين.
ثالثتها: إعادة النظر في علاقة تركيا
بماضيها. فقد سمح ظهور الحزب الديمقراطيّ على الساحة السياسيّة بفتح حوار
معمّق حول ما سمَّيْناهُ "سياسة فكّ الارتباط" مع كلّ ما هو عربيّ، لغةً
وحضارةً. هذا الحوار الذي أفضى في النهاية إلى السماح بأن يُرفع الأذان
بلغة عربيّة (منذ السادس عشر من جوان/حزيران 1950) بعدما كان تركيّ
اللّسان. كما أعيد الاعتبار لبعض السلاطين العثمانيّين وسُمح للجمهور بأن
يزور مراقدهم اعترافًا بدورهم الوطنيّ؛ كلّ ذلك في سياق عالميّ جديد، سياق
الحرب الباردة بين المعسكرَيْن الشرقيّ والغربيّ ومحاولة الدولة التركيّة
التي أصبحت عضوا في الحلف الأطلسيّ منذ سنة 1952 لعب دور متقدّم في مجابهة
المدّ الشيوعيّ السوفييتي تحت مسمّى مقاومة الانحطاط الأخلاقي وجهل الشباب
التركيّ بتعاليم الإسلام.


أبدًا، لم تكن
العلمانيّة في تركيا مسألة فكريّة خالصة، وإن أوهمتنا النقاشات
الإيديولوجيّة والفكريّة والسياسيّة بأنّها كذلك. لقد كانت خيار دولة فرضه
مصطفى كمال أتاتورك فرضًا وأيّدته في ذلك النخبة التي كان هو في طليعة
المعبّرين عن توجّهاتها. كانت علمانيّة تركيا في بدايتها مبنيّةً على قراءة
مخصوصة للتاريخ الإسلاميّ وللحظة الراهنة، لحظة تفكّك الإمبراطوريّة
العثمانيّة مطلع القرن العشرين؛ كانت في بدايتها محاولة إنقاذ لما يمكن
إنقاذه من أجل الحفاظ على "الوطن التركي" الذي أصبح في أعقاب الحرب
الكونيّة الأولى مستباحًا ومُحْتلاًّ؛ ثمّ أضحت -بعد استرداد الوطن
وتحريره- تطلّعًا إلى مُستقبل يُبْنَى بعيدا عن الآخرين الذين كانوا
يُعدّون منذ عهد قريب إخوانًا عربًا مسلمين ولكنّ أحكام التاريخ قضت بأن
يُتْرَكوا لمصيرهم وأن تأخذ تركيا مصيرها بأيدي أبنائها عبر سياسة "فكّ
الارتباط" اللّغوي والحضاريّ. وفي هذا السياق التاريخيّ، سياق ما بعد الحرب
الكونيّة الأولى، أتاحت العلمانيّة للدولة التركيّة أن ترسم لمواطنيها نمط
تديّنهم وحدوده.
ومع انتهاء الحرب الكونيّة الثانية فرضت
أحكامُ التاريخ والتطوّر الاجتماعيّ والسياسيّ على الدولة التركيّة
التعدّديّةَ الحزبيّةَ، ووجدت القوى الكماليّة نفسها في موقع بعيد عن سدّة
الحكم ممّا أتاح للحزب الديمقراطي أن يُراجع أسس العلمانيّة دون مساس
بالجوهر الذي وضع مصطفى كمال أتاتورك حجر الزاوية فيه. فاكتفت الدولة
بالوقوف على نفس المسافة من مواطنيها بصرف النظر عن انتماءاتهم العقائديّة
والدينيّة وتركت للمواطنين أن يقفوا من الذات العليّة المسافة التي يريدون
بشرط أن لا يمسّ ذلك أسس البناء والسلم الاجتماعيّيْن.




"الإسلام
والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" كتابٌ قد يبدو
في وجه من وجوهه مغرقًا في الجزئيّات والتفاصيل منكفئًا على تاريخ تركيا
وعلى همومها الوطنيّة وتوازناتها الحزبيّة ورهانات نُخبها السياسيّة
والفكريّة، ولكنّه يقدّم لنا درسًا من الضروريّ أن نستوعبه وأن نحفظه عن
ظهر قلب. وخلاصة هذا الدرس أنّ العلمانيّة -على جلالة قدرها وعظيم شأنها في
نظر البعض- لا تُصنع خارج التاريخ لأنّها -أحببنا أم كرهنا- وليدة الحراك
الاجتماعيّ شرط أن يكون المجتمع الذي يُحرّكها ذا طاقة "عبقريّة" بحيث يسوس
الماضي والذاكرة والمقدّس سياسةً منفتحةً على الزمن الآتي، على المستقبل
الذي تصنعه الشعوب بعيدًا عن القيود التي تكبّلنا بها أشباح الماضي السحيق
التي لم توارَ التراب بعدُ.


وإذا كان لهذا الكتاب
من نقيصة يُرْمَى بها، فنقيصته الأساسيّة أنّه توقّف بنا عند حدود
الستّينات من القرن العشرين ولم يُتح لنا أن نفهم تطوّرات المسألة
العلمانيّة في تركيا المعاصرة، تركيا التي يرى فيها الكثيرون من
الإسلامويّين المنتصرين في انتخابات ما بعد الربيع العربيّ أنموذجًا
يُحْتذى ومثالاً يُتّبع ونمطًا يُسْتورد ليُقلّد غير مدركين أنّ العلمانيّة
في تركيا (شأنها في ذلك شأن سائر العلمانيّات في كلّ البلدان) هي "مُنتج
محليّ غير قابل للتصدير أو الاستهلاك خارج الحدود الوطنيّة" لأنّها –أحببنا
أم كرهنا- محكومة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي معبّرة عنه منبثقة منه.


الكتاب/ Islam and secularism in Turkey - Kamlism, religion and the nation state
الإسلام والعلمانية في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة
المؤلّفة / أوموت آزاك Umut Azak
دار النشر/ I.B.Tauris & Co Ltd، لندن 2010.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

رصاص وعلمانيّة! قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

رصاص وعلمانيّة! قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة في تركيا- الكماليّة والدين والدولة الوطنيّة" لـ أوموت آزاك الجمعة 17 شباط (فبراير) 2012 بقلم: فاتح منصور

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: