** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 العقل المسلم بين التراثية والوضعية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سوسية
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
العقل المسلم بين التراثية والوضعية Biere2
avatar


عدد الرسائل : 315

الموقع : ساحة الحرية
تعاليق : احب الحياة لانها حرة ومستعدة ان استشهد من اجلها لانها الحرية
تاريخ التسجيل : 05/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6

العقل المسلم بين التراثية والوضعية Empty
16072012
مُساهمةالعقل المسلم بين التراثية والوضعية

لـؤي
صـافي



العقل
المسلم بين التراثية والوضعية











لعل من أهم
خصائص العقل الإنساني قدرته على فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ومن ثم
توظيف هذا الفهم لحل مشكلاته وتحديد أولوياته، وتنظيم شؤونه الخاصة
والعامة، وتحقيق مصالحه الفردية والجماعية. ولذلك كان متوقعاً أن يؤدي عجز
الفرد أو المجتمع عن حل مشكلاته وتحقيق مصالحه إلى إثارة تساؤلات عن قدراته
العقلية وأدائه الفكري والعلمي. صحيح أن قصور الفعل عن تحقيق المصالح
والأهداف، واضطراب الأداء وتناقضه لا يعود فقط إلى نقص في القدرات الذهنية
والفكرية، بل قد يرتبط بمعوقات اجتماعية وسياسية، أو خلل نفسي وأخلاقي. لكن
عجز العقل عن تجاوز المعوقات، وفشله في تقديم الحلول اللازمة لإصلاح الخلل
يصبح مؤشراً واضحاً على اضطراب الفكر وتأزم العقل عند تطاول الأزمان وتكرر
المحاولات الفاشلة. وهذا يدعونا إلى النظر في طبيعة القواعد التي تحرك
العقل المسلم، والانكباب على تحديد مواطن القصور وأسباب الجمود، ومن ثم
العمل على إصلاح ما أفسده تطاول الأزمان وتراكم الأخطاء بغية تنقية العقل
المسلم من الشوائب التي اعترته، واستكمال العناصر التي فاتته
.





يتألف العقل
البشري من نوعين من المعارف، معارف قَبْلية فطرية سابقة على الخبرة
والتجربة وموجهة لها، ومعارف مكتسبة من التجارب الحسية والتأملات النظرية
والخبرات العملية. وتتألف المعارف القبلية من مبادئ فطرية تحول دون التناقض
الداخلي للفكر، وتمكنه من فرز المعطيات الحسية إلى مجموعة من المفاهيم
الأولية ومن ثم تركيبها وفق مفاهيم مجردة. أما المعارف المكتسبة فتتكون من
تأكيدات أو قناعات عملية وقيمية وغيبية. تُكتسب القناعات العملية من خلال
الخبرة والتجربة العمليتين، كمعرفتنا أن الماء يغلي عند تعرضه لحرارة شديدة
وأنه يتجمد عند تعرضه لبرودة قارصة، وعلمنا بأن النار تتأجج إذا ألقي عليها
القش وأنها تنطفئ إذا حجب عنها الهواء. وتُكتسب المعارف الغيبية المحددة
لمعنى الوجود وغاية الحياة من خلال تفسير نصوص الوحي أو رفضها أو تأويلها.
بينما تكتسب المعارف القيمية من المبادئ المستمدة من الوحي والقواعد
المستخلصة من التجارب.





إذن تتألف
البنية الداخلية للعقل من مجموعة من القناعات الراسخة تولدت أصلاً عبر
عملية تفاعل بين المبادئ القبلية ومصدري المعرفة الأساسيين: الكتاب
المنزَّل والكون المشهود. ومن خلال النظر في الكتاب والتفاعل مع الطبيعة
والمجتمع تنضج التصورات والقيم، وتتراكب الخبرات وتتزايد المعارف، وتتحول
التفسيرات والتأويلات إلى منظومات قيمية وعقدية، كما تتحول التجارب
والاعتبارات إلى نظريات علمية ومناهج دراسية، تتناقلها الأجيال وتتوارثها
الثقافات والحضارات.





إن التأمل في
الحقيقة السابقة يظهر لنا أن المبادئ العقلية التي توجه عمليات التفكير لم
تتكون عبر نظر فردي مباشر أو خبرة شخصية، بل تشكلت عبر تفاعل بين عقول
كثيرة استغرق آماداً طويلة، واستبطنت في ضمير الفرد خلال مراحل التربية
والتعليم. لذلك فإن العقل الذي يوجه الفرد يحمل خصائص الثقافة التي شكلته
والتراث الذي صنعه. فإسهامات الأفراد تقتصر على تطوير المعارف الموروثة من
خلال البناء عليها، أو تصحيحها عبر النقد والاختبار والتجربة. ومن هنا تبرز
العلاقة الوطيدة بين العقل والثقافة. فالثقافة تصنع العقل وتشكله. والعقل
يطور الثقافة ويغربلها، فيثريها أو يفسدها. فالعقل يحدد طرائق التفكير
ومبادئ التعامل مع المحيط الطبيعي والاجتماعي على صعيد الفرد، والثقافة
تمثل القواسم المشتركة بين عقول الأفراد، فهي عقل جماعي يوجه سلوك الجماعة
في تعاملها مع مشكلات البيئة ومشاكل المجتمع، ويضمن لذلك تعاون الأفراد
وتلاحمهم في جهدهم لتحقيق مصالحهم المشتركة، وتنظيم شؤونهم العامة.





وإذا كان ذلك
كذلك فإننا نستطيع تقرير أمرين. الأول أن بإمكاننا الحكم على مضمون العقل
السائد بين أفراد مجتمع ما بالنظر إلى تجليات ثقافاتهم المشتركة في سلوكهم
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي. ويلزمنا لذلك الحكم باضطراب العقل
وتناقضه إذا تبين لنا اضطراب السلوك الاجتماعي وتناقض أقوال القوم
وأفعالهم. والثاني أن إصلاح منهجيات التفكير هو المدخل إلى تجاوز الاضطراب
الاجتماعي وإصلاح الفوضى الثقافية.





إننا لا نبالغ
إذا قلنا بأن العقل الذي يقود اليوم حركة المجتمعات المسلمة، على عمومها،
عقل يتصف بالاضطراب المنطقي والفوضى الفكرية والاختلال المنهجي. ولا يعود
اضطراب العقل المسلم في تقديرنا إلى خلوه من المعارف أو العلوم أو
المناهج.. بل على العكس، فإن العقل المسلم يعاني اليوم من تخمة فكرية ناجمة
عن تراكمات معرفية تنتمي إلى ثقافات متغايرة، وعصور متباينة، تجمعت ضمن
الفضاء العقلي دون ترتيب أو انتظام. لذلك تحولت المعارف الكامنة في العقل
إلى حمل ثقيل، وغشاوة سميكة، تحول بين المثقف والنظر المنهجي، وتمنعه من
تحديد مشكلاته والتعرف على أخطائه، والإعداد للتحديات التي تواجهه،
والتعاون مع الآخرين لتحقيق الأغراض المشتركة.





ولعل أول
مظاهر الفوضى والاضطراب الذي يعتري العقل المسلم اليوم تعايش منظومات
معرفية متناقضة، ومنهجيات علمية متعارضة، جنباً إلى جنب في ضميره ووجدانه.
فالمثقف الذي يحرص على الاحتفاظ بهويته التاريخية، والاهتداء بمصادر
الإسلام التصورية والقيمية دون التخلي عن فاعليته الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية، يجد نفسه مضطراً إلى استبطان الفكر التراثي لتأكيد هويته،
والفكر الغربي لتحقيق فاعليته. لذلك نراه يتعامل مع الوحي وفق منظومة فكرية
في دائرة تصوراته الغيبية وقيميه الأخلاقية وممارساته الشخصية، ليعود
ليحتكم في ممارساته الاجتماعية وعلاقاته الاقتصادية والمالية إلى منظومة
فكرية صدرت عن تصورات وقناعات وقيم مغايرة. والنتيجة تمزق في وعي الفرد
يؤدي إلى تناقضات سلوك الفرد واضطراب مسيرة المجتمع.





أما إذا اختار
المسلم تحقيق اتساق داخلي واطراد فكري بالتزام أحد المنظورين السابقين،
فإنه يواجه نوعاً آخر من التمزق عندما يتبين له أن السعي إلى تأكيد الهوية
والالتزام بالمنظومة التراثية يتم على حساب التخلي عن الحيوية والفاعلية،
بينما يؤدي تحقيق الفاعلية بالتزام المنظومة العلمانية إلى عدمية تصورية
وقيمية، واستلاب فكري وثقافي.





ويكفي لإدراك
حجم الفوضى الفكرية التي تعتري الثقافة الإسلامية اليوم النظر إلى واقع علم
أصول الفقه المؤسس لقواعد التفكير المنهجي اللازمة لاستنباط التصورات
الإسلامية والأحكام الفقهية. فإننا إذا نظرنا في مباحث أصول الفقه كما تدرس
في المدارس الشرعية والجامعات نجد أن الكتاب الجامعي يعرض تراكمات معرفية
تطورت عبر أحقاب زمنية مختلفة، ومنهجيات بحثية تبنتها تاريخياً مدارس فقهيه
مختلفة، دون استشعار الخلافات الجوهرية بين تلك المنهجيات، أو التنويه إلى
التباينات الأساسية في توجهات المدارس الفقهية ومبادئها المعرفية. لذلك
تقسّم مصادر الفقه إلى قسمين: مصادر أصلية ومصادر ثانوية أو تبعية. ويصنّف
بعض الفقهاء الكتاب والسنة والإجماع والقياس تحت عنوان المصادر الأصلية،
بينما يكتفي آخرون بإدراج الكتاب والسنة في هذا الباب. ويندرج تحت عنوان
المصادر التبعية قائمة طويلة من الطرائق والقواعد أهمها: الاستحسان
والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف ومذهب الصحابي والاستصحاب. ويضيف
آخرون مباحث الدلالات والقواعد الفقهية والمقاصد الشرعية. وهكذا ينتهي
الطالب إلى حفظ تعريفات وتمييز خطوات دون فهم العلاقة بين القياس
والاستحسان، ودون إدراك أن المقاصد الشرعية منهجية متميزة عمّا سبقها من
المنهجيات تهدف إلى تجاوز المنهجية القياسية في الاجتهاد؛ وأن الدلالات
النصية طريقة ابتكرتها المدرسة الحنفية في القرن الهجري الرابع تفادياً
للإصطدام مع التيار الحنبلي المتنامي لدى تقديم القياس على العمل بالسنن
والأخبار؛ وأن القواعد الفقهية منهجية ابتكرت لضبط العمل بالمصالح المرسلة.





فإذا انتقل
الفقيه إلى مجال الفعل الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فإننا نرى
الكثيرين يعتمدون في تفسير الظواهر الاجتماعية، أو توجيه حركة المجتمع في
هذه المجالات، على معارفهم العامة التي اكتسبوها من خبراتهم الشخصية
وقراءاتهم غير المنهجية. وبالتالي فإننا نلاحظ غلبة الاسقاطات المثالية
والاستنتاجات السريعة التي لا تهتدي بمنهجيات علمية صارمة. أما إذا انتقلنا
إلى دائرة العلماء والمثقفين الذين تلقوا تعليماً علمانياً صرفاً، وتمرسوا
على منهجيات وضعية، فإننا نجد أن الفوضى الفكرية أكثر حدة، والاضطراب
المعرفي أشد خطراً. إذ يصبح العالِم والمثقف في هذه الدائرة عرضة للاستلاب
والتنكر لتاريخه وتراثه إن هو استبطن التصورات العلمانية الكلية والقيم
الوضعية، أو فريسة للعقلية الإسقاطية والنزعات الماضوية إن هو استخدم قوالب
التفكير الغربية لفهم التصورات والقيم الإسلامية. ذلك أن الخبرة العلمية
والمعرفية التي تعلمها والمنهجيات البحثية التي أتقنها لا تمكنه من استنباط
الأحكام والمفاهيم ولا تعينه على تمييز الخطأ من الصواب في دائرة المعرفة
التصورية والقيمية.





إننا نرى في
الفوضى الفكرية، التي أبرزنا جوانب منها آنفاً، دليلاً واضحاً على استقالة
العقل المسلم وتوقفه عن الفعل والانفعال؛ فمن المحال اجتماع فوضى فكرية
وعقل فعّال لأن مبدأي الاتساق والانطباق مبدآن أساسيان من مبادئ العقل.
فإعمال مبدأ الاتساق العقلي(عدم التناقض) في التراكمات المعرفية قمين
بإزالة التناقضات الداخلية وتحويل الأفكار إلى منظومات متسقة. وإعمال مبدأ
الانطباق جدير بإشعار العقل بالتناقضات القائمة بين منظوماته الفكرية
والواقع الخارجي. ونحن إذ نؤكد هنا استقالة العقل لا نقصد نفي الفعل العقلي
جملةً وتفصيلاً، بل التنبيه إلى غياب الأصالة العقلية المرتبطة بالنظر إلى
الوجود انطلاقاً من الخصوصيات الزمانية والمكانية، وهيمنة الوثوقية العقلية
المتمثلة باستعارة عقل تقليدي تراثي أو عقل وضعي علماني. وعلى الرغم من
الاختلاف البيّن في المضامين المعرفية والمنهجيات الفكرية التي تميز العقل
التراثي عن العقل الوضعي، فإن العقلين يتماثلان في عجزهما عن تقديم حلول
تتناسب وطبيعة المشكلات التي تواجه المجتمع المعاصر، أو تطوير نماذج وأنساق
فكرية قادرة على تأجيج الفعل الحضاري الهامد.





وهنا يبرز
السؤال التالي: كيف يمكننا تجاوز حالة الفوضى الفكرية السائدة وإعادة العقل
المسلم إلى حيويته وفعله؟ إننا نعتقد بأن المدخل الصحيح للإجابة على هذا
السؤال يتطلب، بدءاً، تحديد مصادر التشوهات الفكرية والنظرية التي تعتري
عمليات التفكير. وتنقسم عمليات التفكير إلى أنواع ثلاثة متميزة:



(1) تحصيل
المعطيات المعرفية الأولية من الوجود الخارجي بتسليط عمليات العقل
الذهنية (تحليل وتركيب، واستقراء واستنتاج، وتجريد وتشخيص) على الواقع
الكلي للإنسان، بمستوياته الثلاثة: العلوي والطبيعي والاجتماعي؛ ويتم تحصيل
معطيات عن الوجود العلوي إما بقبول الأحكام والقيم الثاوية في النصوص
المنـزّلة، أو رفض تلك النصوص كلياً أو جزئياً.



(2) تحديد
القواعد المعرفية التي تميز الصواب من الخطأ، واليقين من الظن، والقواعد
المعيارية التي تميز الحق من الباطل، والخير من الشر، ومن ثم استخدامها
لتنظيم المعارف المتحصلة من إعمال العقل في النصوص والأحداث والوقائع.



(3) التأكد من
تطابق المنظومات المعرفية المتولدة في الذهن مع الواقع الخارجي المشهود.





فإذا انتقلنا
لتحديد طبيعة التشوهات التي تصيب المعارف المكتسبة نجد أنها تنقسم إلى
نوعين: تشوهات تتعلق بالصدق المعرفي للنص، وتشوهات ترتبط بمحدودية العقل
البشري وتحيزه المكاني والزماني. وتعود التشوهات الأخيرة إلى طبيعة التكوين
الإنساني، وبالتحديد المحدودية العضوية والعاطفية للإنسان من جهة، وتحيزه
في زمان ومكان معينين، وما يترتب على ذلك من ارتباط الإنسان وجدانياً
وعاطفياً بمحيطه الطبيعي والاجتماعي، وبالأفراد الذين تجمعه بهم مصالح
مشتركة وقيم متماثلة. وبذلك يمكن حصر التشوهات الفكرية والمعرفية التي تصيب
العقل البشري في الأنواع الثلاثة التالية:



(1) التشوهات
النصية، وتعود إلى إضفاء صفة الإطلاق والقدسية على نصوص صادرة عن عقل بشري
غير معصوم عن الوهم أو الخطأ، كما يحدث عند إضفاء صفة القداسة على كتب
العهد القديم والجديد التي اختلط فيها النص المنزل بالنص المؤول، أو كما
يحدث عندما تحاط أعمال علماء غير معصومين بهالة من القدسية تحول دون اكتشاف
أخطائهم وتبين زلاتهم. وبطبيعة الحال فإن التشوهات النصية ناجمة عن تحيز
الإنسان في مكان وزمان محددين، ومحدوديته العضوية والنفسية، وبالتالي فهي
مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنوعين اللاحقين من التشوهات.





(2) تشوهات
ناجمة عن محدودية الإنسان العضوية: فقدرة الإنسان على إدراك الأشياء محصورة
ضمن دائرة زمانية ومكانية محدودة؛ فهو لا يستطيع رؤية الدقائق الصغيرة
ويعجز عن الإحاطة بالأجرام الكبيرة؛ كذلك يعجز عن رؤية الأشياء البعيدة أو
المستورة بحواجز صفيقة. وبالمثل فإن قدرته على سماع الأصوات محدودة في
مسافات معينة، وطبقات محددة، ومحدودة كذلك بعدد الأصوات المحدثة في آن
واحد. ولا يختلف الأمر بالنسبة لقدراته الذهنية، فالذاكرة البشرية محدودة
في قدرتها على اختزان المعلومات وتصنيفها، وربطها ببعضها البعض وفق
العمليات الذهنية المنطقية.



(3) تشوهات
ناجمة عن المحدودية العاطفية للإنسان: إذ كثيراً ما يتأثر حكم الإنسان على
الأشياء ومحاكمته للأحداث بعوارض الحب والكره والخوف والغضب؛ والتجربة تظهر
ميل المرء لتصحيح ما يعجبه وتقبيح ما يكرهه والتشكيك فيما يتعارض مع مصالحه
الآنية والقريبة.





إن النتيجة
التي خلصنا إليها آنفاً، والمتمثلة في تعرض المعارف المكتسبة لتشوهات ناجمة
عن خلل في تحديد طبيعة المصادر النصية للمعرفة، وتحيز الإنسان في زمان
ومكان محددين، تؤكد لنا أهمية إخضاع المعارف المكتسبة إلى اختبارات علمية
صارمة لتمييز الصادق من الكاذب والمتيقَّن من المظنون. وبالتالي تبرز
الحاجة إلى تطوير منهجيات علمية بإخراج العمليات الذهنية المستبطنة من
مستوى المعرفة "المباشرة" للأشياء إلى مستوى العلم المطرد المعضد بالدليل
والبرهان.
[2]
فالمنهجية العلمية تمكننا من فرز المعارف المكتسبة إلى أفكار خضعت لتشوهات
نصية وتحيزية، وأفكار تعضدت بالأدلة والبراهين، وبالتالي استبعاد السابقة
واعتماد اللاحقة في عملية البناء العلمي. كذلك تمكننا المنهجية العلمية من
ترتيب الأفكار والنظريات وفق منظومات، ومن ثم التحقق من اتفاق المنظومات
النظرية والفكرية المتولدة عن عملية التفكير من جهة، والحقائق الكلية
الثاوية في الخطاب ومعطيات الواقع الطبيعي والاجتماعي من جهة أخرى. وبتعبير
مكافئ نقول إن التفكير المنهجي يهدف إلى توليد نظام عقلي محكم يحاكي نظم
الخطاب والطبيعة والمجتمع.





إذن فالتفكير
العلمي تفكير منهجي نظامي يسعى إلى تجاوز حالة السيولة والتبعثر التي تعتري
التصورات على المستوى المعرفي بتوليد نظام عقلي متماسك. بيد أن عامل التفوق
هذا الذي يميز النظام العلمي المتماسك عن الوعي المعرفي المباشر يمكن أن
ينقلب إلى عامل ضعف عندما يتحول النظام العلمي إلى نظام مغلق، تتصلب فيه
الأفكار والمنهجيات، فتعجزه عن مواكبة التغيرات العملية والتبدلات
الواقعية. لذلك نلاحظ في تاريخ الفكر الإسلامي عدداً من المحاولات للتخلص
من حالة التصلب التي طرأت على أدوات التفكير ومنهجيات البحث العلمي اعتمدت
على السيولة المعرفية لتفادي التشوهات المنهجية؛ كما فعل ابن حزم عندما
حاول ربط العقل مباشرة بمصادره المعرفية وإنكار الحاجة إلى آليات القياس
والاستدلال لاستنباط الأحكام من نصوصها، وكما فعل التيار الصوفي حين أصر
على البقاء في المستوى المعرفي للوعي وتنكر للمنهجيات العلمية. وعلى الرغم
من نجاح المحاولتين السابقتين في تحرير الوعي والضمير من أسر المنهجية
الفقهية المتصلبة، إلا أن النجاح كان وقتياً وظرفياً، نظراً لاستحالة توليد
خطاب علمي متنامي حال غياب الضوابط المنهجية الضرورية للتحليل والنقد،
واللازمة للقبول والرفض.





وبعد فإن
الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تتابع اليوم على
أمتنا وتحيق بها من كل جانب هي في جوهرها أزمة عقل مستقيل تصلبت منهجيات
تفكيره وفقد القدرة على الفعل والتأثير؛ بل لنقل توخياً للدقة أزمة عقلين،
عقل تراثي انكفأ على ذاته وفقد الصلة بموضوعه، وعقل وضعي انبت من جذوره
وانفك عن فلكه. لذلك اقتضى الأمر التشمير لفهم أبعاد المشكلة والانكباب على
تأسيس قواعد التفكير المنهجي أملاً في تجاوز حالة القصور العلمي والفكري
الراهنة إلى تفعيل الفكر وإعمال العقل. ولقد حرصنا في دراستنا هذه على
البدء بتحديد طبيعة الإشكاليتين الرئيسيتين اللتين تواجهان العقل اليوم،
إشكالية كفاية العقل واستقلاله عن الوحي، وإشكالية تعارض العقل والنقل،
لنخلص إلى تقرير ضرورة تكامل العقل والوحي، وإعادة التعارض الناشئ بين
العقل والنقل في تاريخ الفكر الإسلامي إلى سوء فهم للعلاقة بين الكتاب
الكريم والسنة النبوية من جهة، والعلاقة بين المبدأ الإسلامي الكلي
وتطبيقاته التاريخية من جهة أخرى. لنتحول بعد ذلك لتحديد منهجيات البحث
العلمي، وقواعد التفكير النظامي، الضرورية لتوليد منظومات علمية ومعرفية
تقارب في بنيتها الداخلية البنية الداخلية للخطاب والطبيعة والمجتمع.





ولقد سعينا في
جهدنا هذا إلى رسم معالم منهجية علمية تساعدنا على استنباط العلوم والمعارف
من مصادرها التنزيلية والطبيعية والاجتماعية عبر عملية نقد بنَّاء للعقلين
التراثي والوضعي، تسعى إلى تصحيح الأخطاء والبناء على القواعد العلمية
الثابتة، والمبادئ المنهجية الراسخة. ذلك أننا نعتقد بأن الدخول في نقد
منهجي شرط ضروري لتجاوز القصور العلمي والمعرفي الراهن، وأن الرفض الجذري
للقواعد المؤسسة للعقل التراثي أو العقل الوضعي أو كليهما قمين بتكريس
ثوابت العقل التراثي، أو إلغاء كل الثوابت والانتهاء بهلامية فكرية وعدمية
تصورية أو قيمية. ولعل في الحالة الغثائية التي وصلت إليها بعض الاتجاهات
الإسلامية المعاصرة المصرة على استبعاد التراث بحجة امتلائه بالتشوهات
دليلاً ساطعاً على ضرورة الدخول في نقد بناء مع التراث. فرفض التراث
والدعوة إلى الانتهال من المنابع في حقيقته رفض لعملية تصحيح المبادئ
والقواعد التي قادت إلى تشوه العقل التراثي الثاوي في الثقافة المعاصرة،
وبالتالي العودة لقراءة القرآن والسنة بعقلية تراثية تستصحب المبادئ التي
أدت إلى تشوهات معرفية وتفتقد الرصيد العلمي المكتسب عبر الأجيال. وبالمثل
فقد أدى رفض الاتجاه العلماني للتراث الإسلامي إلى الاحتفاظ بمثالب العقلية
التراثية، وفي مقدمتها هيمنة نزعة المحاكاة والتقليد. لذلك انتهى التيار
العلماني إلى محاكاة مظاهر العلمانية الغربية، وفقدانه الحيوية الإبداعية
والاجتهادية التي تملكها.





إذن لا سبيل
إلى تجنب التصلب العقلي والهلامية الفكرية، وتجاوز الغثائية العلمية
والاستلاب المعرفي إلا بربط العقل من جديد بحقائق الوجود الكلية بأبعادها
الغيبية والطبيعية والتاريخية، وبالتالي تسليط قدرات العقل التحليلية
والتركيبية على النصوص النقلية والظواهر الطبيعية والوقائع التاريخية
لتمييز الثوابت من المتغيرات، والكليات من الجزئيات، والشروط من الغايات.
وبذلك نكون قد خطونا خطوة حاسمة وضرورية نحو إعادة الحيوية للعقل المسلم،
وتهيئته ليقود الفكر الإنساني نحو آفاق علمية أوسع ومقامات معرفية أعلى،
متجاوزاً الغثائية العلمية للعقل التراثي والاستلاب القيمي والروحي للعقل
الوضعي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

العقل المسلم بين التراثية والوضعية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

العقل المسلم بين التراثية والوضعية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» العقل المسلم المعاصر: ملامح الأزمة و منطلقات النهوض
» الحقيقة المحتشمة والخطأ المقدّس ومحنة العقل المسلم
» نقد العقل العربي الإسلامي حول كتاب "مفهوم العقل" لعبد الله العروي
» هابر ماس من العقل الاداتي إلى العقل التواصلي - نورالدين علوش
» جورج طرابيشي وتحرير الذات العربية من الانغلاقات التراثية الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2012 بقلم: هاشم صالح

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: