** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة Empty
13042012
مُساهمةالمؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة

المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة

المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة B20144
أ.د.فؤاد المرعي


يواجه الأدب العربي الحديث بعامة ومثله النقد الأدبي الحديث أيضاً
تساؤلاً ملحاً يدور حول مدى تأثرهما بالغرب، يصل عند بعض المتزمتين إلى حد
اتهامهما في أصالتهما وشرعية انتسابهما إلى العرب فيسميهما هؤلاء "الأدب
والنقد المستوردين" ويصل عند بعض المتحمسين للحضارة العربية إلى حد تنسيب
إنجازات الأدب والنقد الحديثين إلى مدارس أوروبية لمجرد التشابه أو التوافق
في الأفكار أو الصيغ من دون أن يجهد هؤلاء المتحمسون أنفسهم في البحث عن
برهان علمي يثبت صحة هذا التنسيب.‏
وانطلاقاً من هذين الموقفين
المتناقضين نظرياً، الملتقيين عملياً يقوم الدارسون، على اختلاف مواقعهم،
بالمقابلة بين الوقائع الأدبية والنقدية الكبيرة والصغيرة بعد انتزاعها من
سياقها التاريخي ومن منظومة آراء أصحابها وأساليبهم، مستندين في ذلك إلى
وجود أوجه تشابه كثيراً ما تكون شكلية أو مصادفة أو متوهمة. وهذه طريقة في
الدراسة تتطلب اليوم إعادة نظر شاملة وتستحق أقسى الانتقادات لما تتصف به
من تجريبية لا مبدئية ومن إهمال للمقدمات التاريخية للظاهرة الأدبية وعدم
مراعاة لظروف تطور الأدب القومي وارتباطه بواقعه الاجتماعي.‏
إن دارسي
الأدب العربي الحديث المتبعين الطريقة السالفة الذكر لا يجهدون أنفسهم في
البحث عن الأصول التاريخية والقومية والاجتماعية والفردية أيضاً لسمات
إبداع هذا الأديب أو ذاك، بل يفسرون تلك السمات من خلال الجمع الآلي بين
مذاهب أدبية أوروبية تكون متناقضة حيناً مثل الكلاسيكية والرومانتيكية، أو
متباعدة كل التباعد حيناً آخر، مثل الكلاسيكية والرمزية.‏
فإذا اتصف
إبداع شاعر ما بالصدق والوضوح قالوا إنه متأثر بالكلاسيكية، وإذا عاد
الشاعر بإبداعه إلى داخل النفس البشرية ووصله بينابيعها وباح من خلاله
بحقائقها واستشف ما يعتمل فيها صاحوا: إنه متأثر بالرومانتيكية، وحين يحاول
الشاعر الغوص إلى ما وراء الحواس لاكتشاف جوهر الأشياء والكشف عن لبابها
يرددون: إنه أخذ ذلك عن المدرسة الرمزية.‏
وهكذا تصبح دراسة الأدب
العربي عند هؤلاء الباحثين مجرد بحث عن أوجه التشابه بينه وبين الآداب
الأوروبية، بحيث تتجاهل الماهية التاريخية والقومية والفردية التي لا بد
لها من أن تنعكس من خلال إبداعات الأدب العربي الحديث.‏
وبسبب من ذلك
التجاهل للماهية التاريخية والقومية والفردية للإبداعات الأدبية العربية
يسقط من كثير من الدراسات الأدبية الحديثة تحديد أوجه الاختلاف بين الظواهر
الأدبية العربية الحديثة والظواهر الأدبية الأوربية، وتسقط منها أيضاً
محاولات تفسير وجوه التشابه والاختلاف تفسيراً تاريخياً، وتغص أسطر تلك
الدراسات بأسماء أصحاب المدارس الأدبية الأوروبية وأسماء المبدعين من
الكتاب والشعراء والنقاد الغربيين، الذين يرى الدارسون أن أدبنا قد تأثر
بهم، من دون أية مراعاة للأقلمة العميقة التي تخضع لها النموذج المؤثر على
أساس الماهية التاريخية والقومية والفردية للنموذج المتأثر به.‏
ليس
معنى ذلك أننا نرفض المقارنة أسلوباً في دراسة الأدب، بل معناه أننا نريد
مقارنة لا تدمر ماهية الظاهرة المدروسة وإنما تساعد في تحديدها تحديداً
دقيقاً، نريد طريقة في المقارنة تقف في وجه المنهج الشكلي والآلي الذي لا
يزال سائداً إلى اليوم في دراساتنا.‏
إننا نستطيع، بل ينبغي لنا، أن
نقارن الظواهر الأدبية المتماثلة التي تنشأ في مجرى التطور الاجتماعي ـ
التاريخي للإنسانية، بغض النظر عن وجود تأثر وتأثير مباشرين أو عدم وجودهما
بين هذه الظواهر، وذلك بهدف اكتشاف القوانين التي تحكم نشوء الظواهر
الأدبية الملائمة لمراحل معينة من تطور المجتمع.‏
نحن نعتقد أن تاريخ
الأدب العالمي يستند إلى وحدة تاريخ تطور البشرية، ولذا فلا بد من وجود
الاتجاهات المتماثلة في الآداب القومية وهذا الوجود هو أساس التأثير
والتأثر بين آداب الشعوب، إذ أن التأثير في أدب مجتمع ما لا يمكن أن يحدث
إلا عندما تنشأ في ذلك المجتمع الحاجة إلى "الاستيراد الأيديولوجي".‏
يضاف
إلى ذلك ما سبق أن ذكرناه من أن أي مؤثر يخضع إلى "أقلمة اجتماعية" في
الوسط الجديد تبعاً للحاجات والشروط الاجتماعية المحلية لأن التأثير نفسه
مفهوم تاريخي تتبدل طبيعته بتبدل العلاقات الاجتماعية، وهذا ما يجعل
الأعمال الأدبية التي تخضع إلى عملية "الأقلمة" عوامل فعالة في الآداب
القومية التي انتقلت إليها، فتدخل في تطورها بوصفها ظواهر "مساوية في مجال
معلوم" لنتاجاتها المحلية.‏
من كل ما تقدم نزعم أن الأدب العربي الحديث
بعامة قد تأثر بالآداب الأوروبية منذ نشأته في القرن التاسع عشر حين راحت
الحياة الاجتماعية العربية برمتها تتبدل فتتحطم العلاقات الإقطاعية التي
كانت سائدة فيها لتحل محلها العلاقات الرأسمالية المدعومة بالغزو
الاستعماري الأوروبي الذي أدخل البلدان العربية، بهذا الشكل أو ذاك، في
السوق الرأسمالية العربية.‏
وفي إطار هذه العلاقة الشاملة بين أوروبا
والوطن العربي كانت أوروبا، بالطبع، المنطقة الأكثر تقدماً في ميدان التطور
الاجتماعي، وهذا ما جعلها تبدو في أعين رواد النهضة العربية صورة مستقبل
الوطن العربي. غير أن ما تضمنته تلك العلاقة الشاملة من نهب رأسمالي وقهر
استعماري خلق في أوساط النهضة العربية تياراً معادياً لكل تأثير أوروبي، بل
لكل جديد في الحياة الاجتماعية والفكرية مشابه لمظاهر الحياة الاجتماعية
والفكرية الأوروبية. وتناغم موقف ممثلي هذا التيار في النهضة العربية مع
موقف السلفيين المتزمتين فغدا، أحياناً، عداء لكل تطور أو تغيير في الحياة
الاجتماعية والفكرية في البلدان العربية، وادعاء بتميز الحياة العربية
تميزاً مطلقاً من حيوات الشعوب الأخرى، واستقلالها استقلالاً تاماً عن أي
تأثر بالحضارات الأخرى. وقد نتج عن ذلك زعم بأن الأدب العربي "الشرعي" و
"الأصيل" هو ذلك الأدب الذي نشأ على تربة قومية خالصة. وبدا هذا الزعم (في
أعين أصحابه) رفعا من شأن أدبنا القومي، في حين أنه لم يكن في الواقع سوى
دعوة له إلى العزلة والتقوقع والانكفاء في أطر الخدمة الذاتية الضيقة.‏
كما
أن ما تضمنته تلك العلاقات الشاملة من إدخال قسري أو طوعي لأنماط رأسمالية
من العلاقات الاجتماعية وأساليب الإنتاج المادي والروحي هي، في حقيقة
الأمر، أكثر تقدماً من العلاقات والأساليب الإقطاعية التي كانت سائدة وأكثر
تلبية لحاجات تطور المجتمع العربي في الظروف التاريخية الجديدة، خلق
تياراً معجباً بكل ما هو أوروبي ومتحمساً له أشد الحماسة وداعياً إلى أوربة
جميع وجوه الحياة الاجتماعية العربية بما في ذلك وجوه الإبداع الروحي وفي
مقدمتها الأدب. وغدا هذا التيار في مظاهره المتطرفة معادياً لكل تجل تراثي
في حياتنا المعاصرة مدعياً أن التراث هو القضية الأساسية في طريق تطورنا
وأنه القوة التي تتحكم في صناعة عقولنا وأساليب تفكيرنا وإبداعنا فتمنعنا
من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية. ولم يكن هذان التياران سوى الحدين
المتطرفين لمجموعة من التيارات والمواقف الفكرية والفنية التي نشأت في ظل
العلاقة الشاملة بين أوروبا والوطن العربي في مرحلة تحطم العلاقات
الإقطاعية فيه، تلك المرحلة التي امتدت نحو مئة عام وأدت في نهاية المطاف
إلى تقدم الطبقة البرجوازية إلى حد الصراع المباشر ضد السيطرة الأجنبية وضد
سيطرة السلطة الإقطاعية المحلية، كما أدت إلى ازدياد وزنه الاجتماعي
وتطلعها إلى الوثوب إلى مراكز السلطة والقيادة في المجتمع. وقد ساعد ذلك
كله الأدب في تحقيق قفزة نوعية جديدة بالقياس إلى ما كان عليه في القرن
التاسع عشر.‏
ففي مطلع القرن العشرين لم يعد نمط الحياة الرأسمالي يطرق
أبواب الحياة الاجتماعية في الوطن أو يتسلل إلى داخلها خلسة، بل راح يخترق
السدود التي وضعها نمط الحياة الإقطاعي في طريقه. وراحت جيوش الغزو
الأوروبي تزرع النمط الرأسمالي بالقوة في أرجاء وطننا مخمدة كل دعوة تنطلق
من أجل تطور متميز في الشرق... وهكذا أضحت الدعوة إلى أدب عربي متميز غير
مشوه بالتأثيرات الأوروبية ورقة خاسرة في يد أصحابها ونداء لا يلقى صدى
واسعاً في الأوساط المثقفة التي أصبح الشعار السائد فيها مجاراة أوروبا في
كل شيء بما في ذلك الأدب.‏
نحن نزعم، إذن، أن التجديد الذي طرأ على
الأدب العربي لم يكن وليد إرادة أفراد درسوا في الغرب وتأثروا به وبآدابه
فجاؤوا إلى أوطانهم يفرضون على أدبها ثوباً قُدّ لغيرها، بل كان نتيجة
طبيعية لتغير نمط الحياة الاجتماعية وانحسار الطبقة الاجتماعية التي كانت
سائدة حتى أواخر القرن التاسع عشر (الطبقة الإقطاعية) لتحل محلها طبقة
جديدة تبّسط نمط حياتها وفكرها على المجتمع في كثير من الأقطار العربية.‏
لذا
فإن التأثر بالغرب لم يكن سبباً في التغيرات التي طرأت على أدبنا الحديث،
بقدر ما كان نتيجة لتلك التطورات الاجتماعية التي استمرت هادئة حيناً
وعاصفة أحياناً قرابة مئة عام من الزمن.‏
غير أن النهوض الشعبي الذي
شهدته نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والذي قادته الفئات
الوسطى في المجتمع ما لبث أن أخفق في تحقيق أغراضه، الأمر الذي أدى إلى
تخلخل في الوجدان الاجتماعي تجلى في شعر الإحيائيين المرتبطين بالفئة
الحاكمة المتعاونة مع المستعمر الأوروبي على شكل صياغة للمشاعر الوطنية
ومحاولة للتعبير عن القضايا الكبرى والدفاع عنها في حدود الفلسفة الخاصة
للطبقة التي ينتمون إليها. وقد تمسك هؤلاء الشعراء بالصياغة التقليدية وإن
كانوا قد جدّدوا وطوّروا قيم هذه الصياغة من حيث الألفاظ والمعاني
واستحدثوا تغييرات غير حاسمة في القيم الشكلية القديمة، فارتباطهم بالقضايا
العامة في إطار الفلسفة الخاصة للطبقة الحاكمة آنذاك أبقى صياغتهم الشعرية
متصفة بالجمود والتقريرية وتسبب في انعدام التجربة الشخصية في أشعارهم.‏
أما
الفئات الساخطة من الطبقة الوسطى التي حرمت قطف ثمار النهوض الشعبي في
أواخر القرن التاسع عشر والتي كانت عاجزة عن خوض معركة جديدة مظفرة تؤدي
إلى طرد المستعمر الأوروبي وتحقق الاستقلال فقد بدت متمردة تحاول التخلص من
التعبير عن القضايا العامة بالطريقة التي كانت تسلكها الفئة الحاكمة
المتعاونة مع المستعمر وتوجه الشعراء الذين يمثلونها نحو الاقتصار على
التجارب الذاتية أو الشخصية فكان ذلك إيذاناً بنهاية عصر الشعر الاحتفالي،
شعر المناسبات والقضايا الكبرى، وبداية عصر جديد يتطلب التفات الشعراء إلى
التجربة الذاتية، واستلهامهم في شعرهم العواطف والمشاعر الشخصية، إنه العصر
الذي يمتد من العقد الثاني للقرن العشرين إلى منتصفه تقريباً وبضم شعراء
مثل عبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني ومن بعدهم جماعة أبولو في
مصر، كما يضم جبران خليل جبران وقسماً عظيماً من الشعراء المهجريين.‏
لكن شعراء هذه المرحلة، التي أطلق عليها صديقي الناقد محمد جمال باروت اسم "الحداثة الأولى"
وحددها زمنياً بظاهرتين أدبيتين هامتين هما جبران خليل جبران وظهور حركة
"شعر" ومجلتها، لم يتمكنوا من تحطيم شعر القضايا العامة الاحتفالي، بل كان
جلُّ ما فعلوه أنهم وهبوا في القصيدة العربية أبعاداً وجدانية جديدة
وأدخلوا في النسيج الشعري تغييرات لم تكن حاسمة بحكم ترددهم وطبيعة
ارتباطاتهم الاجتماعية ووعيهم لقضايا الأدب الحديث، ذلك الوعي الذي كان
مشوشاً بحكم المرحلة التاريخية التي برزت من خلالها حتمية موت القديم في
حين أن الجديد لما تنبعث غرساته.‏
نحن لا ننفي ولا نريد أن ننفي
تأثير الثقافات الأوروبية في شعراء هذه المرحلة. ولكننا نعتقد أن السبب
الأساسي والجوهري في بروز شعراء المرحلة الجديدة هو إحساسهم بمشاعر تلك
الفئات الاجتماعية التي أخفقت في تحقيق مطامحها الاجتماعية والوطنية عن
طريق النضال المسلح فارتدت ساخطة قلقة مترددة شاعرة بذاتها وبإمكاناتها
الخصبة التي عجزت عن تحقيقها في الواقع، وهذا الإحساس هو ما لون إبداعاتهم
بألوان الرومانتيكية التي لم تدخل أدبنا نتيجة شغف ذلك الجيل من الشعراء
العرب بالرومانتيكية الأوروبية، بل دخلته بوصفها رومانتيكية الشعب المقهور
الذي خابت آماله في التحرر ووقع فريسة الخداع والغدر، رومانتيكية المآسي
الاجتماعية والنضال القومي العاثر.‏
لقد رفع التيار الجديد في الشعر
راية الفردية والتجربة الذاتية، معبراً أصدق تعبير عن البرجوازية الصغيرة
والمتوسطة ومطامحها التي لم تتحقق.. ووقف شعراؤه بالمرصاد لشعراء التيار
القديم، شعراء الطبقة الثرية التي قنعت باقتسام السلطة مع المستعمرين.‏
من
خلال هذا التصور وحده نستطيع أن نفسر تشاؤم إبداعات شعراء التيار الجديد
وما تضمنته من نقد مرير نافذ حزين إلى أخلاق المستعمرين والمتعاونين معهم
من أبناء البلاد.‏
ومن خلال رؤية التحول الاجتماعي ـ التاريخي
الذي طرأ على نمط الحياة في البلدان العربية فأدى إلى تغير في النظرة إلى
الأدب ووظيفته وإلى قطيعة بين الشعر الحديث والشعر التقليدي، يتضح لنا أن أولئك
الدارسين الذين يربطون ولادة الحداثة الشعرية بولادة "الشعر الحر" أو
"البيت الحر" في العراق، (أعني هنا شعر السياب ونازك الملائكة) إنما يهملون
قرابة نصف قرن من تطور محتوى القصيدة العربية الحديثة الذي أدى إلى تفجير
شكلها في الفترة التي يشيرون إليها. ومما لا شك فيه أن إهمالهم هذا هو الذي
يسهّل عليهم ربط مفهوم الحداثة الشعرية بتغير الشكل في القصيدة الحديثة
وربط هذا التغير في شكل القصيدة الحديثة بالشعر الغربي، لا سيما عند كبار
أعلامه من أمثال عزرا باوند وت. س. إليوت وسان جون بيرس ور. شار.‏
ومع أن أولئك
المنظرين للشعر الحديث يتحدثون عن محاولاته للإفلات من ثقل الماضي، إلا
أنهم يرون أن هذا الثقل هو في أساسه ثقل ثقافي ولغوي وعروضي ولا يشيرون إلا
لماماً إلى أن القطيعة التي أحدثها الشعر الحديث مع الشعر العربي التقليدي
إنما جاءت في سياق أزمة اجتماعية وحضارية ينبغي النظر إليها انطلاقاً من
التطور المحلي الخاص في علاقته التي لا مفر منها بالعالم الخارجي. وهكذا
يغدو في دراساتهم تأثر الشعر العربي الحديث بالشعر الأوروبي أشبه بدفعة
آلية مصادفة آتية من الخارج بنتيجة واقعة تجريبية في السيرة الذاتية لشاعر
أو لمجموعة من الشعراء، أو أشبه بانجراف وراء "الموضة" الأدبية، في حين أن
كل تأثر أيديولوجي (بما في ذلك التأثر الأدبي) محكوم بقوانين وتابع للظروف
الاجتماعية، وأن ما يحدد تبعيته هو القوانين الداخلية للتطور الاجتماعي
والأدبي السابق لحدوثه.‏
نحن ندرك أن الصراع الاجتماعي لا يكفي
وحده لتفسير الفن. إلا أن هذا الصراع لا يمكن إلا أن يتجلى في الفن
وبواسطته. بل إن هذا الصراع الاجتماعي كان في مرحلة تفجر الشكل القديم
للقصيدة العربية عاملاً جوهرياً وحاسماً.‏
لقد سبق أن قلنا أن الفئات
الساخطة من الطبقة الوسطى وأحدثت تياراً جديداً في الشعر عبر أصدق تعبير
عنها وعن مطامحها التي لم تتحقق. غير أن التغييرات التي حملها هذا التيار
الجديد لم تكن حاسمة لا في مجال النسيج الشعري ولا في مجال بناء القصيدة.
وليس هذا أمراً مستغرباً.‏
فالشكل الشعري الموروث عن العصور الإقطاعية
لم يتحطم بانهيار العلاقات الإقطاعية بل استمر في استطاعته التعبير عن
المضامين الفنية التي تطلبها بروز الطبقة الجديدة. غير أن استمراره لم يكن
يعني جمود القالب الشعري العربي وخلوده. كما أنه لم يكن يعني أن تلك الفئات
الاجتماعية الجديدة التي بدأت تتكون منذ بداية عصر النهضة لن تجد الأشكال
الفنية الخاصة بها. وقد بدأ الشكل الجديد للقصيدة العربية الحديثة بالظهور
فعلاً في مرحلة نهوض الفئات الاجتماعية التي قُهرت في مطلع القرن، ونعني
بذلك الفئات البرجوازية المتوسطة والصغيرة التي قادت البلدان العربية إلى
الاستقلال. فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفيما كانت البرجوازية
المتوسطة والصغيرة في المشرق العربي تتأهب هي الأخرى للاضطلاع بمصيرها. لقد
أسمعت هذه البرجوازية صوتها منذ بداية هذا القرن لكنها لم تحقق حلمها
بالوصول إلى السلطة والاستقلال في غالبية أقطار الشرق العربي إلا في نهاية
الحرب العالمية الثانية. وقد أثار الاستقلال أمامها من بين ما أثار جملة
هائلة من المشكلات الثقافية التي أفرزتها مجابهة إلزامات العصر الحديث.
فالمثقف العربي المنحدر من هذه الطبقة، الحامل لثقافة عريقة مجمدة في أشكال
غير مكيفة للأزمنة الحديثة، وجد نفسه في مواجهة أزمة تاريخية لا تزال
تلاحقه حتى يومنا هذا، مواجهة تدفعه إلى الدوران في حلقة مفرغة. إنه ينتمي
إلى عالم سلفي ومجزأ وساكن وفقير يواجه عالماً آخر ثرياً وقادراً ونازعاً
إلى الهيمنة والعدوان. وعليه لكي يحقق هويته الشخصية والتاريخية أن يدافع
عن نفسه ضد الآخر. ولكنه لا يستطيع مواجهة ذلك الآخر إلا إذا تبنى منجزاته
المادية وهضمها هضماً سريعاً. وقد شكل حدا هذه المسألة قطبي الإلهام للحركة
الثقافية العربية بعد الحرب العالمية الثانية. فالمثقفون العرب الذين
يقدمون أنفسهم باعتبارهم متمردين وثوريين رافضين لمجتمعاتهم الراهنة والذين
يستقون آمالهم ومشاريعهم من الصيغ الرأسمالية أو الاشتراكية في التجربة
الأوروبية، إنما يفعلون ذلك انطلاقاً من رغبتهم في خلق مجتمع قادر على
حماية نفسه وهويته الخاصة. وهكذا يتحول الصراع القديم بين الشرق والغرب إلى
صراع محلي وحده يمكن أن نبحث في ولادة الشعر العربي الحديث، ومن خلاله
يمكن أن نفسر توجه هذا الشعر وبناه، لا من خلال البحث عن مؤثرات ونماذج
وردت من الخارج عن طريق الترجمة أو الإطلاع المصادف فقلدها هذا الشاعر أو
ذاك.‏
إن الثورة الشعرية الجديدة التي عبرت عن نفسها عبر مجاميع وقصائد
متناثرة في الصحافة الأدبية والعربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم
تكن ثورة على مستوى البنية الشكلية للقصيدة فحسب، بل كانت أيضاً مسيرة
للفكر ووسيلة لرؤية العالم الحديث وتمثله ومقاومته في محاولة شاملة للخروج
من أزمة الوجود العربي، التي أشرنا إليها، عن طريق هدم الواقع الراهن
وإعادة بنائه. فرواد الشعر الحديث ظهروا على مسرح الحياة الأدبية رموزاً
للتمرد على البؤس والتسلط ومخلفات القرون الوسطى وخضوع النظم الحاكمة في
الوطن العربي للقوى الأجنبية، ظهروا ناطقين باسم الجماهير الشعبية في
تطلعها إلى الحقوق الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. وقد تجاوز هؤلاء في
شعرهم حدود الدعوة المباشرة للرفض إلى محاولة هدم بنى المجتمع نفسها وهدم
التصورات التقليدية السائدة فيه عن الإنسان والكون والفن، أي أنهم استهدفوا
برفضهم المجتمع بكامله في جوهره وشخصيته التاريخية.‏
ويتم النظر إلى
هؤلاء الرواد، ولا سيما السياب، بوصفهم تلاميذ للشاعر ت. س. إليوت وللحق
نقول إن هذه النظرة لم تنشأ من فراغ، إذ من الممكن للمرء أن يكتشف تأثير
إليوت في السياب من خلال تصور الشاعرين لوحدة التجربة الإنسانية وتواصلها،
ومن خلال قلقها المأساوي إزاء العالم القاسي، الذي حُكِم عليهما أن يعيشا
فيه، فدفعهما ذلك إلى الاتجاه نحو المنابع الروحية البدائية للتاريخ
المتمثلة بالأساطير.‏
ولكن الدارسين يهملون، في أغلب الحالات، ارتباط كل
تأثير أدبي بالتحويل الاجتماعي للنموذج الذي يجري التأثر به. ونحن نعني
بذلك إعادة صياغة ذلك النموذج إبداعياً وتكييفه ليتلاءم والظروف الاجتماعية
التي كانت مقدمة ضرورية لحدوث التأثر، وليتلاءم وخصائص الحياة القومية
والشخصية القومية في المرحلة المعنية من التطور الاجتماعي، وكذلك ليتلاءم
والتقاليد الأدبية، وينسجم والتميز الفكري والفني لشخصية الشاعر المتأثر.‏
إن
ما ذكرناه أعلاه يبين أن دراسة سمات الاختلاف بين السياب وإليوت وإظهار
أسبابها التاريخية مسألة لا تقل أهمية عن دراسة أوجه التشابه بينهما.‏
وسمات
الاختلاف بين الشاعرين أكبر من أن تخفى على الناظر في شعرهما. ففيما كانت
المسيحية هي المنتصرة عند إليوت، بقي السياب يؤكد بعناد على الطبيعة
الإنسانية للانبعاث، وراح يتجاوز بشعره الدين في مهمة "تغيير" العالم
"المحكوم بمنطق الذهب والحديد" ويعلق على الشعر الأمل في الخلاص و "الأمل
في أن تستيقظ الروح في عالم تسحقه المادة". وهكذا تتحول رموز كالمسيح
والصلب والانبعاث وأدونيس وتموز عند السياب إلى أمثلة يمكن إعطاؤها لتجسيد
مرحلة من مراحل تطور رؤيته للعالم، مرحلة يهتف الشاعر حين خروجه منها "أن
موتي انتصار".‏
إن إنسان السياب يذكرنا بالإنسان. الإله عند جبران خليل
جبران، الإنسان الذي يُتوّجه إلهاً فعله البطولي الهادف إلى تحقيق الخلاص
على الأرض. فهو، إذن، إنسان مختلف تماماً عن إنسان إليوت اليائس من تحقيق
أي خلاص على الأرض. لذا أستعير هنا قول أدونيس فأقول إنه إذا كان هناك لقاء
بين الإنسانين فإنه "اللقاء بين عالم يتراجع (الغرب) وآخر يتقدم صوب
المستقبل (الشرق العربي)".‏
نحن نجد، إذن، في شعر السياب وزملائه من
رواد الشعر الحديث نزعة آملة بخلاص أرضي لا يتوقف عند المستوى الحضاري وحده
بل يتجاوز ليصبح خلاصاً كلياً عبر مناضلة الفرد لنفسه وعبر النضال
الاجتماعي من أجل العدالة والكرامة وتضحيات الحياة المناضلة المتوجة بالصلب
في أغلب الأحيان، وفي هذا تجل واضح لحالة الازدواج التي يعاني منها المثقف
العربي الذي تمتزج معاناته بمعاناة مجتمعه فلا يرى خلاصه منها إلا بخلاص
ذلك المجتمع.‏
هكذا يتجه الشعر العربي الحديث إلى المستقبل واضعاً معنى
الظواهر والرموز التي يجسدها موضع الشك والبحث من جديد، محرراً نفسه من
عوائق الزمان والمكان، في مواجهة عالم القصيدة التقليدية المغلق المنظم
الذي يجد الشاعر فيه "عوامل يقينه" و "يبرر المنطق الخطابي" لشعره.‏
وهذا
التوجه "المستقبلي" المحرر من الزمان والمكان الذي يترجم المشاكل الكونية
الكلية الدائمة إنما يجسد أيضاً مشكلة وجود يعانيها الشاعر العربي الحديث
في حضارته وأمته وفي نفسه هو "بالذات". إنه يتلقى في توجهه نحو المستقبل
وطأة الحاضر والماضي ويشعر بثقل المجتمع والشروط النفسية والاجتماعية التي
يولد شعره ويتطور ضمنها. ولكنه يؤمن "بالخصوصية الإعجازية" للشعر، التي
تجعل العمل الشعري لا يعكس معطيات الواقع فقط بل يتجاوزها ويغيرها. فالعمل
الشعري في نظر أدونيس، مثلا، "ليس رسماً بل خلق". وهنا يكمن، في رأينا، سبب
طلاق الحركة الشعرية العربية المعاصرة مع مجتمعاتها المسحوقة بمشكلاتها
الخاصة. وفي هذا المجال يتجلى اختلاف آخر بين الشعر العربي الحديث ونظيره
الأوروبي، فإذا كان إليوت يتحدث عن "الصوت الأول للشاعر
الذي إذ يتحدث إلى نفسه فإنه لا يتوجه إلى أحد" فإن الشاعر العربي الحديث،
كما تظهر كتابات أدونيس وزملائه من رواد الشعر الحديث، يتوجه بشعره إلى
جمهور نخبوي محدود وإلى الأجيال القادمة.‏
لقد رأت خالدة سعيد في
دراستها حول الموقف والتعبير لدى السيد الحاج في الشاعر العربي الحديث
"نبياً جديداً"، "منفياً مضطهداً محروماً يقابل بالنفور وعدم الفهم"، لأنه
تخطى زمن العافية والانسجام، وشرع في "تمزيق أقنعة المنطق"، المتعارف عليه،
طامحاً لأن يثقب جدران المعقول، لأنه "يشق طريقه وسط اللعنة والرعب ويعيش
في ملكوت العبث حيث لا معنى للكلام". وهذه رؤية تغري إلى حد كبير بالمطابقة
بين الشعراء العرب المعاصرين ونظرائهم في الغرب، وتؤدي إلى وصم الشعر
العربي الحديث بضرب من نقل أو استنساخ القيم والمواقف، إذا لم نأخذ بعين
الاعتبار الخصوصيات التاريخية والاجتماعية التي يتطور فيها إبداع الشاعر
العربي الحديث وفعله، أن همّ الشاعر الأوروبي والأمريكي المعاصر هو مشكلة
الإنسان الفرد المتميز في عالم يتجه أكثر فأكثر نحو تقييد الفرد وتنميطه،
أي أن الشاعر الغربي مهتم بالتركيز على الهوية الفردية، في حين ينبع هم
الشاعر العربي الحديث أساساً من انهيار البنى الاجتماعية العتيقة ومن
الفراغ الحاصل بنتيجة ذلك الانهيار، الفراغ الذي لا تتضح من خلاله هوية
الفرد والجماعة وانتماؤهما القومي والحضاري. وحين تُعكس حالة البحث عن
الهوية التي يعيشها الشاعر العربي المعاصر على مرآة الثقافة الغربية تصبح
عنصر تضليل للدارسين.‏
إن حركة الشعر العربي الحديث قد تعرضت، بما لا
يحتمل الشك، إلى افتتان كبير بما حققه الشعراء الغربيون وبعمق تجاربهم
الإبداعية، ومال بعض المثقفين العرب إلى الاعتقاد بصعوبة أو استحالة اللحاق
بشعراء الغرب أو اختزال المسافة الإبداعية التي تفصلنا عنهم، فالمثقف
العربي غالباً ما يرى نفسه محاصراً بالشعور بالإخفاق واليأس والعبث كلما
حاول تحليل وضعه الخاص والحكم عليه انطلاقاً من قيم ومعايير غربية في ضوء
النموذج الغربي الشامل الذي يقدم نفسه نموذجاً لحضارة شاملة. إن المثقفين
العرب الذين ثاروا في منتصف هذا القرن بالمحور الطبيعي للحياة الروحية
للتشكيلة الاجتماعية المنهارة وهو التراث والرجوع إلى الله، وجدوا أنفسهم
حائرين وعاجزين عن الخروج من حالة الضياع إلا بالخروج من أطر واقعهم الغائم
فحكموا على أنفسهم بالانعزال والتوحد. وهكذا وجد العديد من الشعراء العرب
أنفسهم محاصرين برؤيتهم ذاتها، يقدمون الانطباع بأنهم ليسوا بحاجة إلى
التواصل مع عامة الناس الذين لا يزالون يرون العالم متماسكاً مستقراً على
أسسه القديمة، ويُنَصّبون أنفسهم ثواراً في وسط عالم الأفكار المحنطة، مع
أنهم لم يكونوا في الحقيقة ثواراً يمارسون الاحتجاج والرفض، بقدر ما كانوا
انعزاليين يمارسون نفي الذات بسبب محاولتهم تخطي الواقع الحاضر تخطي وفهم
الأجيال المعاصرة أيضاً. فمن الواضح أنه إذا كان الفرد قادراً على تجاوز
الظروف الخاصة بمجتمعه والنفوذ ثقافياً، إن صح التعبير، إلى واقع أكثر
تطوراً، فإن هذا الانتقال لا يكون ممكناً على صعيد الجماعة التي تتمتع
بشخصية عضوية وتاريخ معقد يجعلانها عاجزة عن بلوغ العالم الذي يطمح إليه
الفرد إلا من خلال نفسها ومن خلال سياق تطور ثوري.‏
إن كل ما ذكرناه
أعلاه يبين أن دراسة سمات الاختلاف بين شعرنا العربي الحديث ونظيره
الأوروبي وإظهار أسبابها التاريخية مسألة لا تقل أهمية عن دراسة أوجه
التشابه بينهما. وبذلك يتحدد الطريق إلى طرح المسألة الأساسية في الموضوع
الذي نعالجه نعني بذلك "المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي الحديث".‏
إن الشعر عمل إبداعي. والعمل الإبداعي ميدان خاص من ميادين العمل المقسم اجتماعياً.‏
وهو في كل عصر يمتلك مقدمات أساسية له على شكل مادة فكرية محددة يرثها من العصور السابقة.‏
ولذا
فإن الشعر العربي الحديث لم ينشأ في الفراغ وإنما من خلال عملية معقدة من
التفاعلات مع التقاليد الأيديولوجية القائمة ولا سيما التقاليد الأدبية
المحلية منها والعالمية. صحيح أن الأدب يعكس الواقع الاجتماعي. ولكن انعكاس
الواقع الاجتماعي في الشعر العربي المعاصر، كما في الأدب عموماً ليس
سلبياً بل هو انعكاس إيجابي يتحدد بوعي الشاعر الاجتماعي المحدد تاريخياً.
وطبيعة تكوين وعي شاعرنا المعاصر ترتبط إلى درجة كبيرة بوجود التقاليد
الأدبية القومية والعالمية في إطار وحدة قوانين التطور الاجتماعي ـ
التاريخي ووحدة العملية الأدبية، التي تؤدي إلى وجود تفاعلات مستمرة ين
جميع ميادين الوعي الاجتماعي ومن بينها ميدان الأدب. ولذا فإن كل تفاعل بين
شعرنا العربي المعاصر والشعر الأوروبي إنما هو في الوقت نفسه صراع مع
التقاليد الأدبية الموروثة بهدف تطويرها لاحقاً أو تغييرها أو تجاوزها كلها
أو بعضها، وبعبارة أخرى، هو صراع يحدد نوع التغير واتجاه التطور اللاحق
للشعر الحديث. ومن هنا تتضح أهمية عدم الاكتفاء بالبحث عن أوجه التشابه،
بين الشعر العربي الحديث والشعر الأوروبي وضرورة البحث عن أوجه الاختلاف
بينهما وكذلك أهمية عدم الاكتفاء بالمقارنة بين أساليب إبداع شعرائنا
المعاصرين والتقاليد الأدبية العالمية وضرورة المقارنة بينهما وبين
التقاليد القومية الموروثة أيضاً، المقارنة بين إبداعاتهم وإبداعات سابقيهم
ومعاصريهم التي أثرت في تكوين وعيهم. إن هذه المقارنة هي السبيل الوحيد
لمعرفة مدى استقلال شعرنا الحديث إبداعياً ولتحديد مكانه في التطور العام
للأدب قومياً وعالمياً.‏
إن فهم التأثير الأدبي بوصفه تأثيراً تستدعيه
الحاجات والاتجاهات المتماثلة في التطور الاجتماعي والأدبي يمكن أن يفسر
جانباً من تأثر بدر شاكر السياب بإليوت أو عبد الوهاب البياتي بناظم حكمت،
ولكنه لا يصلح لتفسير تأثر شاعر كأدونيس، مثلاً، بالأساطير الفينيقية:
والإسلامية فالحديث في مثل هذه الحالة يدور على استخدام "التراث الأدبي"
استخداماً إبداعياً. وهذه مسألة يحتاج تفسيرها إلى البحث في الظروف
الموضوعية والخصائص الذاتية للكاتب وللعمل الإبداعي نفسه. فمن خلال هذا
البحث تتحدد إمكانية استخدام التراث استخداماً إبداعياً وتحميل تركة الماضي
الأدبي معاني جديدة معاصرة، وترتسم الحدود الممكنة للتقارب الفني
والأيديولوجي بين الماضي والحاضر، تلك الحدود التي يؤدي الخروج عنها إلى
علاقة لا مبالية بالتراث أو إلى رفضه أو تشويهه تشويهاً نابعاً من تفسير
ذاتي قد يقود صاحبه إلى التزوير، وقد أظهر شعرنا الحديث أن حدود علاقته
بالتراث واسعة جداً من خلال عودته إلى الأساطير والرموز السورية القديمة
(لا سيما الرموز التموزية) وإلى الرموز الصوفية والتاريخية العربية
الإسلامية. ومن الصواب أن يرى بعض الدارسين (إسعاف رزوق وعبد الحميد جيدة
مثلاً) أن هذه العودة إلى التراث والإفادة من الأساطير القديمة للشعوب التي
سكنت الشرق قد أتت شعراءنا عن طريق شعراء الغرب. وبخاصة من قصيدة "الأرض
الخراب" لإليوت ولكن الوقوف عند هذا الحد في تفسير هذه الظاهرة يوقعنا في
الخطأ، فالرموز التموزية المضمرة في شعراء إليوت مختلفة عن الرموز التموزي
في الشعر العربي الحديث. لقد كان إليوت يؤمن بأن الأرض باتت خراباً وحلّ
بملكها العقم لأنها فقدت الإيمان بالمسيحية، وبما أن تيرزياس بطل قصيدة
إليوت يخفق في الوصول إلى "الكأس" المقدسة، كأس الإخصاب الطبيعي والحضاري
والروحي المخبأة في الكنيسة، فإنه لا يبقى للناس إلا لعنة الأرض الخراب
والعقم الحضاري والروحي.‏
لقد استوعب شعراؤنا المعاصرون قصيدة "الأرض
الخراب" وأثرت هذه القصيدة وغيرها من إبداعات الشعر الغربي تأثيراً عميقاً
في تحولات الشعر العربي الحديث. ولكن هذا الشعر، الذي استفاد من جماليات
الشعر الأوروبي، أدرج المؤثر الإليوتي وغيره ضمن حقل صراعاته وإشكالياته
وحاجاته، مانحاً هذا المؤثر دلالة اجتماعية وحضارية مغايرة ومختلفة. ولم
يحدث ذلك بنتيجة رغبة ذاتية عند هذا الشاعر أو ذاك، بل جاء استجابة لإيمان
النخبة المثقفة من البرجوازية المتوسطة والصغيرة المتهورة في معركتها ضد
التخلف من ناحية، والمستعمر الأوروبي من ناحية أخرى، بحاجتها إلى قائد نبي
بطل ينقذ الأمة ويخلصها ويبعث "جوهرها" المتعالي على التاريخ وينهض به من
جديد. لقد تجلى هذا الإيمان فلسفياً في كتابات المفكر القومي العربي زكي
الأرسوزي الذي كان يتحدث عن توقع الأمة لانبثاق البطل النبي منها وتجليه
فيها بخلقها من جديد وإعادتها لتحمل رسالتها إلى العالم.‏
كما
تجلى في كتابات المفكر القومي السوري أنطون سعادة الذي كان يعتقد أنه
الزعيم المنتظر وأن من حقه قيادة الأمة وتوجيهها، والذي حاول بسلوكه ومصيره
أن يكون النبي والبطل والمخلص والفادي. أما مصدر ذلك الإيمان بضرورة ظهور
النبي المخلص فهو التناقض الرهيب الذي خلقه إخفاق النهضة العربية في تحقيق
مشروعها في الاستقلال الوطني وبناء المجتمع المتطور، بين وعي النخبة
المثقفة من البرجوازية المتوسطة والصغيرة لذاتها وبين ظروف الواقع
الاجتماعي التي تجعل تحقيق تلك الذات ضرباً من المستحيلات ما لم تقع معجزة.
إن التفوق الكبير لوعي النخبة المثقفة البرجوازية على ظروف واقعها
الاجتماعي المتخلف هو الذي كان الدافع لها لتعطي الأولوية
في تغيير الواقع الاجتماعي، لا لفهم قوانين تطوره، بل لتغيير نظرة الإنسان
إلى الحياة، والكون، وهو الذي أوحى لها بأن حركاتها ليست مجرد حركات
سياسية، بل حركات بعث قومي حضاري (سوري أو عربي)، تقوم النخبة بقيادة بطل
مخلص. وقد أدى ذلك كله إلى غياب الفهم التاريخي للواقع من وعي تلك النخبة
وغدت العوامل النفسية والفردية في نظرها العوامل الفاصلة في مجرى التاريخ
بدلاً من القوى الاجتماعية. وهكذا حملت النخبة نزعة مثالية تهدف إلى بناء
مستقبل جماعة بشرية (الأمة العربية أو الأمة السورية) ليس انطلاقاً من
المعطيات الأساسية والإيجابية لتاريخها وخصائصها المحلية وإنما على أسس
عامة ومجردة. ومن هنا فإن استخدام الشعراء والمعاصرين للتراث، على الرغم من
تأكيدهم (يوسف الخال مثلاً) على أن الحركة الشعرية الحديثة هي حركة ثورية
تطورية نابعة من صميم الشعر العربي وترفض أي انقطاع عن الماضي، لم يأت بهدف
البحث عن روحية أو جوهر للتراث يمكن أن يسيل استلهامه التمرد على الواقع
الراهن إلى ثورة واعية تحتفظ بخصوصيتها، بل جاء لتحقيق ضرورة مطلقة تستند
إلى "روح العصر" في "تبديل عقلية بكاملها وخلق عقلية جديدة متجددة واعية".‏
وهذا بالضبط هو ما يفسر عودة كبار ممثلي الحركة الشعرية العربية الحديثة إلى نماذج التمرد والتجديد في التاريخ العربي دون غيرها.‏
وهو
بالضبط ما يظهر بجلاء الفارق الكبير بين عودة إليوت وغيره من شعراء الغرب
إلى الماضي بوصفه ملجأ ينقذهم من بوار الحاضر وقسوته، وبين عودة الشعراء
العرب المعاصرين إلى الماضي الذي يريدون من خلال العودة إليه إعادة حياة
الفكر والحرية، كما يقول أدونيس "وأن يستمروا في الاتجاه ذاته الذي التزم
به أسلافهم بعمق وبوضوح بصيرة. يريدون أن يتجاوزا هذا التجزيء بين الحضارات
الذي يرى في التراث العربي واقعاً نهائياً".‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

المؤثّرات الأجنبيَّة في حركة الحَداثة الشعريّة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الإيقاع النثريّ والمفردة الشعريّة في ((بينالي عواء وبسكويت))
» عقل في حركة(*)
» من أجل حركة لكل الفقراء والمستضعفين
» حركة الكتابة
» عن طبيعة حركة 20 فبراير

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: