** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 بين الهندسة والشعـر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

بين الهندسة والشعـر Empty
17102011
مُساهمةبين الهندسة والشعـر

بين الهندسة والشعـر



عضو الهيئة الباحثة في مخابر آي. بي. إم
قسم هندسة الحاسبات وأتمتة تصميمها
يوركتاون هايتس ، نيويورك

ورقة قدمها الباحث يف لقاء
الإبداع الثقافي والتغيير الاجتماعي)
(في المجتمعات العربية في نهاية القرن
المنعقد في غرناطة من 4 إلى 9 مايو 1998

ما الذي يبيح الكلام في مقال واحد عن نقيضين إلا التناقض بينهما؟ أليست
كل أسماء الشعر وصفاته أضداد لأسماء الهندسة وصفاتها؟ أليست الهندسة، وهى
والدة تقنية مستبدة، مسؤولة عن نفي الشعر عن العالم؟ أليست مسؤولة عن كل
تلوث لحق الماء والهواء وعن كل قبح ورث جمالا عن الطبيعة؟ أليست مسؤولة عن
تشييء الإنسان، ومكننة المجتمع، وعسكرة الدولة؟ وهذا المهندس؟ إنسان، غالبا
ذو نظارتين سميكتين، ونظرة ضيقة وأفق محدود، كيف نضع مصير البشرية بين
يديه؟ وهؤلاء الشعراء؟ ما الذي فعلوه من أجل إنسان مدحور وطبيعة مغلوبة على
أمرها إلا الكلام الكلام الكلام؟، (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم
يقولون ما لا يفعلون)؟ المهندس مدان لأنه، بعمله، أفقدنا الحرية. والشاعر
مدان، لأنه، بلغته، عاجز عن وجدانها

بحثي هذا ليس حول الإدانتين،
فأنا لا أقول لا بهذه ولا بتلك. ولكنه بحث حول قراءتين: هندسية تقنية
للإبداع الشعري، وشعرية مجازية للإبداع الهندسي

مثال من تاريخ التقنية
عند
الحديث عن الإبداع الهندسي التقني، ينبغي البدء من حيث يبدأ كل إبداع- من
الرؤيا. يحكى عن المخترع الأمريكي، إلياس هاو، مخترع آلة الخياطة، أنه قضى
سنين عديدة وهو غير راض عن أدائها يريد ويجهد لتحسينها. فحدث أن رأى فيما
يراه النائم أنه وقع أسيرا في قبضة طاغية مستبد، فحكم عليه بالقتل. ثم
جعلوا يقودونه إلى ساحة الإعدام والطبول تقرع، والملك الطاغية في مشهد منه
مرتفع على العرش، وحشد من الأعيان والعامة ينتظر تنفيذ الحكم. ثم نظر، إلى
حراسه فوجدهم يحملون رماحا لا كالرماح، إذ كان كل منها مثقوب الحربة

لم
يفق إلياس من نومه إلا والحل الذي ظل يبحث عنه سنوات طويلة واضح وضوح
الشمس: سم الخيط من إبره آلة الخياطة موضعه الأفضل هو رأس الإبرة لا ذيلها
كما اعتاد الناس ولا وسطها كما كان يظن. ،

إذن، للحلم دور في
الإبداع الهندسي كما له دور في الإبداع الشعري. لا بل إن حلم إلياس فيه قسط
جميل من المجازية. الإبر رماح، وتحسين آلة الخياطة مسألة حياة أو موت. دور
الرؤيا في الإبداع الهندسي يشير إلى أن هذا النوع من الإبداع فاعلية
إنسانية متكاملة تستغرق كل الإنسان، لا عقله أو يده دون سائر

وجوده.
الوعي واللاوعي شريكان أصيلان في الإبداع الهندسي، شريكان أصيلان في
الإبداع الشعري. والرأي الشائع الذي يقول أن التقنية تغلب الملكة المنطقية
العقلية على ما سواها من ملكات صحيح جزء لا كلا. فالتغليب حاصل قطعا، ولكنه
برمته في جانب من جوانب الإبداع التقني هو الجانب الإجرائي، أما الجانب
الإشراقي فيحتاج إلى كل ملكات المبدع ومجموع مهاراته. لم ير إلياس في حلمه
الآلة التي كان يعمل على تطويرها، ولم ير نظامها الميكانيكي ولا رسومها
الهندسية. إنما رآها رؤية مجازية في محيط بدائي الثقافة، كل شيء فيه بعيد
كل البعد عن التقنية التي اخترعها إلياس ثم انعكف على تطويرها... إلا شيئا
واحدا: حربة الرمح المثقوبة

العقلانية والهندسة
لم
يكن الكلام عن الحلم والمجاز في الإبداع الهندسي ممكنا لو لم تكن المعرفة
الهندسية مختلفة عن المعرفة العلمية. لا شك أن الثانية رافد هام من روافد
الأولى، لكن المعرفة الهندسية تتجاوز التفسير الذي تأتي به المعرفة العلمية
إلى التغيير الذي هو غاية كل مبدع. فلسفة المعرفة العلمية هي العقلانية
التي تفصل العقل عن المادة، وتجعل للعقل وجوده المستقل وقوانينه الخاصة، في
العقلانية، الحقيقة مرغوبة لذاتها، والسبيل إليها التجريد العقلي. أما في
الممارسة الهندسية فالحقيقة وسيلة بين وسائل، لا غاية الغايات، والسبيل إلى
كل مرغوب في الهندسة هو التجسيد. البرهان العلمي عقلاني نموذجه البرهان
الرياضي وأدواته المجردات العقلية من منطق ورموز وأعداد. أما البرهان
التقني في الهندسة فجوهره الإجراء والأداء. هذا التأكيد على الأداء هو الذي
يجعل الإبداع التقني أكثر ميلا إلى التخمين والحدس والمجاز من الإبداع
العلمي. أي أن الإبداع الهندسي يفتح أمام المبدع ما أغلقته العقلانية من
ينابيع .

الهندسة والشعـر الإلهام فهو إذن أوثق صلة بالفاعلية الإبداعية للشعر
والفن عن العلم العقلي موقف المبدع التقني من النظرية العلمية هو استخدامها
إن كانت موجودة والاستغناء عنها إن لم تكن في الثورة الصناعية سبقت الآلة
البخارية علم التحريك الحراري الترمود يناميك وفي بدء هذا القرن سبق
البرهان على إمكان الطيران علم تحريك الغازات اللزجة وفي العقد الذي مضى
سبق تشبيك الحاسبات في شبكة الإنترنت معرفتنا طبيعة الدالات العشوائية التي
تميز سيل المعلومات

من مفارقات الإبداع الهندسي أنه يبني قبل أن
يعرف ويبرهن قبل أن يعقلن ولكن في هذه المفارقة ما يدهش حقا؟ أليس الشاعر
كذلك يكتب قبل أن يعرف؟ أليس هو يبرهن قبل أن يعقلن؟ ثم من هو الشاعر الذي
يستظهر القاموس قبل أن يكتب القصيدة؟ في الشعر كما في الهندسة يصدق قول
نيتشه: "التأمل مانع عن الفعل " أي أن انتظار الحقيقة يمنع الإبداع هذه
القربى بين الهندسة والشعر لمما يجعل الشاعر أقدر على أن يقبض على الأداة
غير متلبسة بالعقل إذ هي في أحايين كثيرة تجسيد للحدس في الأداء تماما كما
أن القصيدة تشكيل للحدس في اللغة

الشعر والتحدي التقني ما هو دور
الشعر في المجتمع التقني؟ كيف يمكن تبرير الشعر حيث الإبداع الهندسي
المستمر والمتسارع واحد من أهم مصادر إنتاج الثروة وتأطير الثقافة؟ طرحت
عصبة من الشعراء الأمريكيين هذا السؤال في مطلع القرن في محاولة منها لفهم
موقف الجمهور الأمريكي من الشعر إذ لم يأت القرن العشرون على أمريكا إلا
والفرق بين الوضوح بين مستوى الإبداع الشعري ومستوى الإبداع التقني لم يكن
الشعر ندا مقنعا للتقنية هتاف والت ويتمان أنا شاعر القاطرة في القرن
التاسع عشر ظل بلا صدى في القرن العشرين فالذين يبدعون الأدوات ويستخدمونها
في جو من التفاؤل بقدرة التقنية على حل أي معضلة في تعامل الإنسان مع
المادة هؤلاء الناس وهم الأكثرية الساحقة في المجتمع التقني ليسوا بحاجة
إلى شعر لم يواكب الطليعة الخلاقة في المجتمع لم ينبر أحد ليهتف أنا شاعر
السيارة أو أنا شاعر الهاتف أو أنا شاعر الكهرباء ربما لأن الأدوات
والمخترعات صارت تتلاحق سريعة ولم تعد أي واحدة منها رمزا جبارا كليا
للفتوحات التقنية كما كانت القاطرة البخارية في أيام ويتمان لم تكن الثورة
التقنية في مجتمع شاب نشيط ما زالت تملكه شهوة الفتح بحاجة إلى شعر أو فن
بل لقد بلغت هذه الثورة من الامتداد والتغلغل في الثقافة أنها أخذت تبدع
وسائط تعبيرها الفني معها في حركتها الظافرة السينما والمذياع والتلفزيون
كلها قائمة على تقنيات لم تنضج إلا في هذا القرن وكلها ساهمت في نقل النشاط
التعبيري من مجال النص وهو تاريخيا مجال الشعر إلى ميدان الصورة لم تكن
الثورة التقنية كذلك بحاجة إلى شعراء لخلق معادلها اللغوي لأن الذين كانوا
يبدعون الأشياء كانوا أيضا يبدعون الأسماء إذن في مجتمع تقني يراغماتي
المعيار فيه للأداء لا للشكل وللتغيير لا للتعبير لا بد للشعر ولإبداع
الشعر من تبرير وقد تنطع لتقديم هذا التبرير في أمريكا شعراء مثل إزرا
ياوند و ويليامز كارلوس ويليامز و باربارة مور و ستفنس ولاس وكان منهجهم
تبرير ضرورة الشعر في المجتمع التقني بتبني معايير علمية هندسية تقنية
ومحاولة البرهان نظريا أو عمليا على أن الشعر يفي بهذه المعايير. الدقة
والصواب والنفع دقة العلم وصواب الهندسة ونفع الآلة هي بزعمهم خصائص شعرية
يقول ياوند مثلا في مقال كتبه عام 1912 الفنان الجدي كالعالم: كلاهما
يقومان بالتعبير الدقيق عن صورة الرغبة

أما ويليامز فكان كثيرا ما
يقارن العمل الشعري بالعمل الهندسي معتبرا أن القصيدة ليست سوى " آلة في
كلمات هل نجح هؤلاء الشعراء في مشروع التبرير؟ أترك الحكم للحيثيات: ياوند
وعدد من أصحابه الشعراء " بينهم ت س إليوت " قرروا الهجرة إلى أوروبا حيث
ثقافة النص أعمق جذورا عنها في المجتمع الأمريكي وحيث الجمهور أقل ارتباطا "
في ذوقه الإبداعي بقيم التقنية الجديدة السائدة في أمريكا فكأن هؤلاء
الشعراء المهاجرين قد أخذوا بقول ويتمان: "ينبغي لكي يكون الشاعر عظيما أن
يكون الجمهور عظيما" أما الشعراء الذين مكثوا في أمريكا فقد أقروا ضمنا
باستحالة تبرير الشعر تبريرا تقنيا ذلك أن القصيدة كما يقول ويليامز في
رسالة إلى مور كتبها عام 1944 "لا تؤدي شيئا إنها لا تفلق الصخر ننتظر من
شعرنا أن يقوم بعمل ما أن يأتي بعالم أفضل لكنه في غاية الضعف بتعبير آخر
لقد سقط الشعر في امتحان الأداء بيد أن الشعر في أمريكا بلاد التقنية
الظافرة لم يمت على غياب التبرير ولا عجب فالشعر ما يزال منذ فجر الأبجدية
يجدد نفسه مع كل ثورة تقنية العلاقة الفاعلة فيه هي الطاعة لنص أول مقيد
الأبجدية المكتوبة أول التقنيات هي أيضا أول قيود الشعر وأول مثال في تاريخ
الحضارة على قدرة الشعر على التحرر بل الاستفادة من قيود التقنية

تقنية الأبجدية وديمومة الشعر
لا
أقول ببراءة الأبجدية ما إن قتل قدموس التنين حتى تحولت أسنانه إلى عساكر
مصفوفة على الأرض كما كانت الأسنان مصفوفة في فكي التنين قدموس الفينيقي
حامل الأبجدية إلى العالم هو أيضا مؤسس العسكرية الأبجدية كأسنان التنين
الذي أراده قدموس نظام حاد قاطع لأنها تفصل بين الصوت والصورة بين المسموع
والمرئي بين العين والأذن إن كان ثمة غربة يحصر بها الشعر فهي الغربة التي
بدأت عندما نفت الأبجدية المكتوبة الصوت في الحرف لهذا أقر الإسلام ترتيل
القرآن وتجويده بعد أن أدان من ثقافة الجاهلية الشعر والغناء الترتيل
والتجويد إعادة للصوت إلى الكتاب أي إعادة للتلازم الشعري بين العين
المتأملة واللسان الناطق والأذن الخاشعة عسكرية الصف المرصوص هي أيضا
عسكرية السطر المكتوب الكتابة الأبجدية أول الجيش وأول الدولة وأول العلم
وأول الفلسفة وبها انتهى كهنوت الهيروغليفية وانتهت هيروغليفية الكهنوت
الكتابة الأبجدية تقنية رمز واتصال وتدوين وتنظيم ماذا كان موقف الشعر
منها: الرفض أم القبول؟ بقبول الأبجدية المكتوبة خسر الشعر الألفة مع
الصوتين: صوت الذات وصوت الحياة وخسر التلازم بين الناطق والسامع والشاهد
وخسر كذلك فوضى الذاكرة الخاصة وفرادتها الخلاقة لكنه ربح مكانه في بنيان
الثقافة المدونة أي الثقافة المسيطرة فربح بذلك الذاكرة الجمعية المكتوبة
ونظامها بقبول الأبجدية المكتوبة دخل في ملكوت النص وأخذ يدور في فلك
الموروث من اللغة و كما أن النظام العسكري مرتبي لا يقبل إلا الأمر والطاعة
علاقة فاعلة فكذلك هو النظام الأبجدي: مرتبي.

(نشرت هذه الرسالة ضمن مقال كتبه أدونيس
في جريدة الحياة الصادرة يوم 1/4/1997)
يوركتاون، في 18/1/1997


عزيزي أدونيس، في طريقنا البارحة إلى برنستون، كان من الصعب علي أن
أفعل شيئين في وقت واحد: قيادة السيارة بين المركبات والشاحنات التي كانت
تتزاحم حولنا، وقيادة الكلمات التي كانت تتزاحم على لساني إلى معان لم
أوفق، للأسف إلى تأديتها، أما الآن وقد تم لنا الأمر الأول بسلام، فاسمح لي
أن أعطي الأمر الثاني الوقت الذي يستحق أقول إن من الفرق بين الفن
والهندسة فرقا جليا في الغاية العمل الفني والعمل الهندسي يشتركان في أن
كليهما فعل تصميم فبناء غير أن غاية الفن استكشاف البهاء وغاية الهندسة
كفاءة الأداء أعني أن ما نبحث عنه في الفن هو الجمالي وما نريده في الهندسة
هو النفعي ولذلك فالفن الذي يريد من نفسه النفع فحسب ساقط من أعيننا،
الهندسة التي تريد من نفسها الجمال فحسب ساقطة من أيدينا! نعم، إن للفن
الجميل وجها نفعيا، وللهندسة النافعة وجها جماليا، ولكن أجمل الفن هو الذي
تغيب منه إرادة النفع، وأنفع الهندسة هو الذي حضر كل بهائه في حسن أدائه
أقول ومن الفرق بينهما أيضا فرق في فحوى البناء ومنحاه كلا الفن والهندسة
تفاعل بين الإنسان والمادة لمد ملكوت الإنسان ولكن في الفن يتفاعل الجسد مع
المادة لمد ملكوت الروح أما في الهندسة فيتفاعل الوعي مع المادة لمد
ملكوتي العقل والجسد وحول هذين الأخيرين أسوق أمثلة في الماضي البعيد كان
دور الأداة مقصورا على حفظ الجسد وعونه ثم تقدمت الهندسة إلى أن أفضت، بعد
الثورة الصناعية الأولى، إلى تضخيم مهول بالأداة لملكات الجسد من حواس
وعضلات بالهندسة تصبح الجرافة يدي الإنسان والطائرة جناحيه والرادار عينيه
والسونار أذنيه واللاسلكي صوته والقطار قدميه وما هندسة الإنسان الآلي،
فيما أرى، إلا مشروع للانتقال المنطقي من تضخيم الجسد بالأداة إلى
استبدالها النهائي به في الماضي البعيد كذلك لم يكن للأداة دور يذكر في
ملكوت العقل ثم جاءت الحاسبة الميكانيكية لتعين، من ملكات العقل، الذكاء
الحسابي، ثم جاء الحاسوب، الحاسب الإلكتروني، ليتم ما بدأته الحاسبة فيحل
محل الذكاء الحسابي برمته ثم تطور الحاسب من أداة حساب فحسب ليصبح أداة
محاكمة وتحكم، وموضع خبرة تستشار وتجربة تستوحى، وآلة تنظير وتظهير، وجهاز
اتصال وتلقين إذن تطور الحاسب تحت أعيننا من أداة حساب إلى أداة معرفة، وما
هندسة الذكاء الصناعي، فيما أرى، إلا محاولة للانتقال المنطقي عن تعزيز
العقل وتضخيمه بأداة المعرفة إلى استبدالها النهائي به الصيرورة التقنية في
الجسد والعقل إذن واحدة: عون فتضخيم فاستبدال أفي صيرورة الفن ما يعادلها
تضخيما واستبدالا؟ بعض الجواب هو في مقابلة تاريخ حاصل وتاريخ مستحيل أما
الحاصل فآلة نافعة تحل محلها آلة أفضل أداء، وهكذا حتى تحل الآلة المثلى
محل الجسد الذي طلبها فلبته فأضمرته وأما المستحيل فتمثال يحل حله آخر أكمل
بهاء، وهكذا حتى يحل التمثال الأمثل محل الروح التي اشتاقته فلباها
فأضمرها! ما أعنيه بالتاريخ المستحيل هو أن عالما فنيا ليس فيه إلا مونيه
أو سيزان محال كعالم ليس فيه إلا دافيد أو دولاكروا ولكن عالما ليس فيه إلا
السيارة وسيلة نقل شخصية عالم معقول، لا بل هو عالم مرغوب، رغم أن وطء
السيارة على البيئة والمدينة والإنسان أعمق، وأعظم خطرا من كل ما استعمله
الإنسان قبلها من وسائط نقل الأداة الأسرع والأكفأ والأنسب تجيء وحتم ظفرها
الماحق معها أما المنحوتة الأحدث فتبدع وكل ظفرها أن يتسع لها حيز تحت
الشمس وهكذا يقف الروماني بجانب الإغريقي ويقف دوغا Degas بجانب ميكل أنجلو
أعني أن الماضي في الفن حاضر أبدا، أما في الهندسة فهو منسوخ تماما. كل ما
يريد المهندس أن يعرفه عن وظيفة الأداة هو في الأداة عينها لا في تاريخها
وكل تحسين لأداء الأداة لا يتم إلا بالتفكير العميق بعناصر الأداة وتصميمها
ولهذا لا يذهب المهندسون إلى متاحف هندسية كما يذهب الفنانون إلى متاحف
فنية أن تعرض أداة من الماضي في خزانة هو أن تعرض قصورا عن أمثل أداء، أما
أن تعرض لوحة على جدار فهو أن تبرز نموذجا عن أكمل بهاء. هندسة العمران
حالة خاصة، الشيق فيها هو أنها تكاد تكون الوحيدة بين الهندسات في جمعها
بين الأداء والبهاء، بين الوظيفة والتعبير بين تصاميم للبناء كلها مؤدية
لوظيفته سكنا، أو عملا، أو محطة أو جسرا، أو صرحا، أو معبدا، يقع على حدس
المهندس أن يختار أفضلها تعبيرا عن روح المكان عليه باختياره أن يعمق تجربة
الإنسان في المكان، داخل المبنى وخارجه، أن يجعل من باطن المبنى فضاء
حيويا حول الجسد، ومن ظاهره معراجا بصريا من المحدود إلى اللامحدود لممارسة
العمرانية السليمة، يصبح النفعي جماليا والجمالي نفعيا، ويتوحد التقني
بالغني توحد إبداع ومعاينة وفي العمران البديع، يزدوج دور المادة، مادة
البناء، إذ تصبح في آن معا وسيله أداء لوظيفة، كما هي في الهندسة، ووسيلة
تعبير عن تجربة، كما هي في الفن علاقتنا مع جسر جورج واشنطن المعلق الشامخ
الذي عبرناه البارحة بالسيارة كانت علاقة وظيفة فحسب استخدمنا الجسر تماما
لما صمم له بيد أنه كان بإمكاننا أن نعمق عليه إحساسنا بالمكان فنمشي على
رصيفه لنرى مانهاتن والهدسون كما لم يرهما أحد قبل الجسر ألا ترى معي أنه
لولا التقنية الفذة التي استخدمت لبناء الجسر لما كان مثل هذا الإحساس
ممكنا؟ ثم ألا ترى معي أن التقني يفتح ميدان التجربة الشعورية كما لم يفتحه
الطبيعي من قبل؟ ثم ماذا عن التقني والتجربة الشعرية؟ أشكرك لأسئلتك التي
أتاحت لي طرح مزيد من الأسئلة وإلى لقاء قريب.

* * *

رسالة ثانية: التقني والتجربة الشعرية

نشرت هذه الرسالة ضمن مقال كتبه أدونيس
في جريدة الحياة الصادرة يوم 15/5/1997
يوركتاون في 2/2/1997

عزيزي أدونيس

لم أنس سؤالي ماذا عن التقني والتجربة الشعرية؟ وها أنا في الرسالة أبدأ
الجواب فأقول: إن شعرا ينفي التقنية عن عالم رؤياه وهو يدعي إنقاذ الإنسان
يجهل الإنسان كما أن شعرا يقوم ليستشرف المستقبل ولا يرى التقنية فيه قد
أخطأ الشرفة وأشكل عليه المستقبل يحكى أن بطل الإغريق ثيزيوس لم يخرج من
متاهة اللابيرنث مسكن الوحش المينوتور إلا بخيط أعطته إياه آريانا ابنة
الملك الطاغية مينوس سيد المتاهة وصاحب الوحش

وجاء في أوديسة هوميروس أن أول إياب عوليس كان صنعه بعون الإلهة كالبسو
لمركب الإياب وجاء كذلك في التوراة أن النجاة من الطوفان كان صنع نوح لفلك
النجاة تحت عين الرب الإله .

تعلم الأسطورة إذن أن الأداة سواء كانت بتفاهة خيط أو بعظمة فلك جزء لا
ينفصم من ملكوت الإنسان بل هي الجزء الذي لا تتم خطة الخلاص إلا به والشعر
الذي لا يرى الخيط في حرية ثيزيوس أو الفلك في نجاة نوح أو الصليب الذي على
الجلجلة في فداء ابن الإنسان الشعر الذي لا يرى التقنية في خطة الخلاص
كابوس أغلق على الإنسان كل سبل الخلاص .

وتعلم قصة ثيزيوس تحديدا أن المتاهة وهي أداة سجن وخوف وضياع لن تقوى
على أداة الخلاص حتى لو كانت بحقارة خيط طالما أنه خيط شده ذكاء الإنسان
إلى العتق والحرية

وتعلم كذلك أن الطاغية مهما توحش وتطرف في هندسة العبودية والعذاب يحمل
في صلبه نقيضه: غازلة خيط الرحمة ومهندسة الظفر بالحرية وهكذا فالشعر الذي
لا يرى-الأداة لا متاهة ولا خيطا لا يرى كل الإنسان والذي لا يراها إلا
متاهة فيستهولها ويخشاها لا يعرف إلا القنوط والذي لا يراها إلا خيطا
فيستحقره ويرميه لا يعرف إلا الضياع أما الشعر الكلي شعر التجربة الإنسانية
الكلية فهو الذي يرى الأداة متاهة وخيطا ويرى معهما المغامرة الإنسانية
كاملة في الكره والحب في الذل والحرية في الموت والحياة الإنسان صانع أد
وات أو هو بعبارة برغسون الأدق صانع أدوات صانعة بدورها لأدوات وما المهندس
الذي خرج إلينا من مناجم الفحم وهدير الآلة البخارية ثم حملنا على وسائط
النقل السريعة من سيارة وقطار وطائرة ثم أرانا وأسمعنا الخفي القصي بالهاتف
والمذياع والتلفاز ثم مضى ليعفر وجهه بغبار الذرة وتراب القمر ما هذا
المهندس إلا الصورة الراهنة لمعنى الإنسان الصانع إنه مع مصنوعاته وأدواته
جزء من الطبيعة الكونية والفلسفة التي تجهد لتفصل بين الطبيعة والإنسان
فتجعل الإنسان خارج الطبيعة أو عدوا لها يحسن بها أن تحمل الهراوة البدائية
وتعود لتشاطر الوحوش المأوى في كهوف الجبال أحب وأتمنى أن لا أرى في
المهندس إلا آريانا التي تغزل الخيط أو نوحا الذي يصنع الفلك أو عوليس الذي
ينشر الشراع على الممارية ولكني أعلم أن المهندس هو أيضا مينوس ذو المتاهة
و أرخميدس ذو المرايا يوجه أشعة الشمس المعكوسة عليها نارا يحرق بها سفنا
وما تحمل و أوبنهايمر ذو الذرة إذ وقف ذات صباح في صحراء نيو مكسيكو ليشهد
الغيمة الذرية الأولى ترتفع وتحجب وجه السماء بقبضة التحدي وتظل وجه الأرض
بشجرة الموت أحب كذلك وأتمنى أن لا أرى في الطبيعة إلا مويجة أو نسمة أو
وردة ولكني أعلم علم اليقين أن الطبيعة مويجة وطوفان نسمة وإعصار ورد ة
وزلزال إذن ليس ثمة من طبيعة خيرة أولى يؤوب الفلسفة والشعر بالإنسان
الصانع إليها لأن الطبيعة ليست محض خير ولأن تاريخ الإنسان الصانع هو في
جوهره تاريخ طبيعة صانعة يستحيل في مثل هذا التاريخ عكس شعاع الزمن أو قتل
شهوة النمو الخلاق شهوة التجاوز و التوق إلى عالم الشفا بين الممكن
والمستحيل الآلة صنعة الإنسان شريكة له في أسطورته ومصيره هي خيط ثيزيوس
وشراع عوليس وهي إلى هذا وذاك عربة زوس وخوذة أثينا وقوس ديانا وسهامها أي
هي جزء لا يتجزأ من واقع الألوهة ولكن واقع الألوهة ليس إلا حلم المألوه
ليس إلا الرغبة الأصيلة في الإنسان الشهوة المؤسسة للشعر!

لكل هذا يهيأ لي أن المهندس يرى وجهه في هوميروس و ويتمان أوضح كثيرا
مما يراه في أفلاطون و هيغل لا لشيء إلا لأن فلسفة تفصل الفكر عن المادة
والمثال عن الصورة أبعد كثيرا عن تجربة الإنسان من شعر لا يسقط عن المغامرة
الإنسانية شيئا فيعانق كل الإنسان: فكره ويده ذاته وأدواته ولكل هذا أيضا
يهيأ لي أنه كثيرا ما تكون الأداة المؤدية ألصق بالتجربة من الكلمة المعبرة
السيف أصدق أنباء من الكتب كما يقول أبو تمام فإذا كان ذلك كذلك وإذا كان
مدار الإبداع في الشعر هو ربط الإنسان بمستقبل الحياة لا بماضي اللغة، أفلا
يجدر بالذي لا ينفك يعالج مادة الحلم في سعيه نحو الأسمى والأجمل أن يكون
أخا وصديقا للذي لا ينفك يعالج مادة الوجود في سعيه الصامت الدائب الدائم
نحو الأكفأ والأفضل؟ أفلا يجدر إذن بالشاعر أن يكون أخا وصديقا للمهندس؟
مجرد سؤال آخر وإلى رسالة قادمة ولقاء قريب .

الثقافة العربية والتحدي التقني
في كل تقنية جديدة شيء من المأساة
إنها دائما أذان برحيل عالم ألفناه ودعوة إلى دخول عالم لما نألف بل لما
نعرف موقف الإنسان العادي من التقنية الجديدة يتنازعه الحنين والخوف: حنين
إلى ماض تعود عليه وخوف من مستقبل لا يدري أي أمر يخفيه عندما تدخل الآلة
الجديدة إلى الحياة يدخل شعور الفقدان في قلب الإنسان: فقدان الألفة مع
الحاضر وفقدان قدرة السيطرة عليه الخوف يقود إلى المقاومة والرفض ويقود
الرفض الأعمى أحيانا إلى العنف اللديون أتباع نيد لود في إنكلترا ا أحرقوا
القاطرات ومصانع النسيج إبان الثورة الصناعية واليوم يحطم اللديون الجدد
الحاسبات الإلكترونية في مهرجانات تستعرض فيها الرفض لما يدعوه هيدغر
بالتأطير التقني للثقافة والمجتمع إذن مشاعر الخوف والنبذ وفقدان السيطرة
موجودة حتى في المجتمع التقني حيث إبداع الحداثة التقنية ممارسة يومية لا
تنقطع في الثقافة والاقتصاد في المجتمع العربي وهو مجتمع غير تقني يستهلك
التقنية ولا يبدعها أو ينتجها، يعاني المثقف العربي من ازدواجية في الموقف
من التنمية فمن وجه يؤمن هذا المثقف في أعماقه أن خلو الثقافة العربية
والحياة العربية من الإبداع التقني سمة من سمات ضعفهما إن لم نقل تخلفهما
وهو من وجه آخر يخشى على الثقافة القومية من الحتمية التقنية بجانبيها
الاستهلاكي والإبداعي الحتمية الاستهلاكية تكرس التبعية التقنية
والاقتصادية وتقود إلى التبعية الثقافية لما لأنماط الاستهلاك من تأثير
جسيم على أنماط الثقافة فإذا تم فرضا العتق من التبعية التقنية بتأسيس
وتكريس تقاليد الإبداع التقني في الثقافة القومية صار المثقف العربى يخشى
أن تصبح التقنية هي النمط الثقافي السائد وهكذا يصبح التأطير التقني سواء
كان استهلاكا أو إنتاجا في ذهن المثقف العربي إفراغا للهوية الثقافية من
محتواها أي أن دفاعه عن الهوية يقوده من حيث لا يدري إلى موقف هو أقرب
لموقف اللدية الرافضة للثقافة التقنية جملة وتفصيلا يبقى أن أذكر أن مقاومة
اللديين استمرت سنة وبعض السنة ثم قضت وخرج اللديون عن التاريخ وما زالت
السكك الحديدية تحمل الناس بين مدن الأرض وقراها فيما مصانع النسيج تغزل
وتنسج كساء وأرزاق مئات الملايين منهم .

يدعوني ما تقدم إلى إبداء الملاحظات التالية:

أولاً ليست التقنية ضد الثقافة بل هي جزء لا يتجزأ منها والثقافة التي تصر على
أن ترى تناقضا جوهريا بين هويتها التاريخية والتقنية المعاصرة هي ثقافة في
سبيلها إلي الاندثار .

ثانياً لا يؤدي استيعاب تقاليد الإنتاج والإبداع التقنيين بالضرورة إلى إفراغ
الثقافة القومية من محتواها وخير مثال أضربه على هذا هو اليابان هل أفقدت
التقنية الثقافة اليابانية هويتها وخصوصيتها؟ قطعا لا ذكر لي الدكتور
يامازاكي أحد الذين شاركوا في اختراع الفاكس إن سببا من أسباب هذا الاختراع
الرئيسة هو استعمال اللغة اليابانية لرموز غير أبجدية كتابتها أسهل من
طباعتها أي أن التقنية لم تنف الهوية بل جذرتها بعض المأساة أننا لا نريد
أن ندير رؤوسنا فنظر إلى الشرق بدلا عن الغرب.

ثالثا كان مفهوم الحتمية التقنية مناسبا للتقنيات الميكانيكية السائدة في
القرن التاسع عشر كانت كلها تقنيات تسيير التقنيات الإلكترونية ومنها
الحاسبات وآلات الاتصال تقنيات تخيير المبادرة فيها للإنسان لا للآلة ثم إن
مفهوم الحتمية التقنية لا يصدق على مجتمع يجمع بين إيمان شديد بالحرية
الفردية وتغلغل شديد لثقافة الإبداع التقني في نسيج حياته الاقتصادية
والاجتماعية أعني أن منحى التطور التقني في المجتمع الديمقراطي هو نحو
تكريس الحرية لا تقييدها .

رابعاًالثقافة العربية ما زالت ثقافة نص أي ما زالت اللغة والموروث اللغوي
وسطها الوحيد الثقافة التقنية بالمقابل ثقافة صورة وأداة يكاد يكون الخطاب
الثقافي العربي كله خطابا باللفظ بينما خطاب الثقافة التقنية هو بالأداء في
ثقافة التقنية صورة واحدة أبلغ عن ألف كلمة حسب القول الأمريكي الشائع
لأفعال أعلى صوتا من الأقوال حسب قول آخر عندما أقول ثقافة الصورة لا أعني
الصورة التي تخاطب الحس فحسب بل أعني الصورة التي تخاطب البصيرة بمخاطبة
البصر لا أعني الصورة التلفزيونية بقدر ما أعني الخريطة الجغرافية الدقيقة
والمخطط الهندسي الدقيق وصورة القمر الصناعي الطيفية وصورة المرنان
المغناطيسي الوظيفية والصورة الطبقية المحورية والصورة الهولوغرافية
الثلاثية الأبعاد وأنواعا كثيرة من الصور سواها أعني باختصار كل صورة لا
تراها العين إلا بعون إنتاج مثل هذه الصورة ما يميز ثقافة تعيش في العالم
عن ثقافة تعيش في الماضي الاصرار على نبذ الصورة باسم النص هو في واقع
الحال إصرار تفضيل الوهم
خامساًموقف المبدع التقني هو موقف الواثق بالنفس المتفائل بالحياة العصر
الذهبي للثقافة التقنية هو دائما وأبدا: المستقبل الجرأة أمام المعقد
المعضل والمهارة في البناء والبرهان بالأداء فضائل في الإبداع الهندسي
تحتاجها ثقافة النص أشد الحاجة لتعالج خوفها أمام الآلة وإدمانها على
التحليل وإلحاحها على البرهان لتفقه .



أعود إلى قدموس الفينيقي، حامل الأبجدية إلى الإغريق، لأسأله السؤال
الذي طرحه عليه أدونيس في قصيدته ضوء الشمعة انظر أعماله الشعرية الكاملة
الجزء الثالث "دار المدى" 1996 :

ا لماذا لم تتركنا نكتب بجسد الأشياء ذاتها بدلا من هذه الحروف الضاربة في التجريد العقلي؟
ألم تكن ثقافة المادة التي هي في مستوى الطبيعة أقرب إلى الإنسان وأجدى وأكثر تعبيرا عنه
من ثقافة الرمز والإشارة؟

ثمة
إنسان ما زال يقول بثقافة المادة ويكتب بجسد الأشياء هذا الإنسان هو
المهندس عن تعابير العصر الشائعة أن التقنية لغة أدوات إذن بمعنى من
المعاني المهندس المبدع هو شاعر العصر شاعر ذو لغة ولكن بلا أبجدية بقدر ما
تغيب الأبجدية تزيد الحرية في التعبير والقدرة على التصوير أما شاعر الرمز
والإشارة فيتخلص من قيد الأبجدية بالمجاز به يقترب من الهيولى والصورة وبه
يرى كما يرى المتصل بالطبيعة تفاصيل التكوين قول الشاعر الأمريكي ويليامز
القصيدة آلة من كلمات أسمعه صدى معكوسا لقولهم التقنية لغة من أدوات
وكلاهما يذكران بعبارة صناعة المجاز التي كانت ترسلها كتب البلاغة العربية
التقليدية إرسال البديهيات التقنية كلمة معربة أصلها اليوناني Techne يحمل
معنى الفن وكلمة Poesie أو Poetry كذلك في أصل يوناني يحمل معنى الصناعة
وفي العربية القصيدة تحمل معنى القصد وهي مؤلفة من أبيات كل بيت منها يعوزه
بناء ومصراعان هذه التقاطعات المعنوية بين الكلمات تحيل إلى حدس بدئي أن
الصناعة والشعر إلفان لا ضدان

لا غرابة إذن أن تنطوي الممارسة
الإبداعية في الهندسة المعاصرة على مجازية يستعين بها المهندس على الفهم
والتساؤل والمفاضلة والمعايرة لا بل قد يكون استعمال المجاز في التصميم
سببا من أسباب نجاحه والقبول به قبولا عاما أدل على ذلك بمثال استعمال
المجازين المكتبي والمسرحي لتصميم السطوح البينية من نظم تشغيل الحاسبات
ومثال استعمال المجازاة التشريحية من المخ والجملة العصبية لتصميم
خوارزميات التلقين والتدريب في مجال الذكاء الآلي المجاز هو أن ترى المؤتلف
في المختلف كما يقول القاضي الجرجاني وهذا بالتحديد ما تفعله الهندسة
عندما تستوحي الآلي من الإنساني والإنساني من الآلي بيد أن الإبداع الهندسي
يختلف عن لإبداع الشعري في ثلاث نقاط جوهرية :

الأولى هي أن
الإبداع الشعري ينتهي عند المجاز أما الإبداع الهندسي فيبدأ به والسبيل من
المجاز إلى الجهاز ومن الفكرة إلى الأداة شاق وطويل.
الاختراع عشره
إلهام وتسعة أعشاره جهد وإقدام كما يقول أديسون والثانية هي أن الإبداع
الهندسي يخضع كل مجاز كما يخضع كل فكرة لمحنة التجسيد وامتحان الأداء ولا
أظن أن في الشعر الذي يبقى في عالم الرمز والإشارة ما يعادل تلك المحنة
وذاك الامتحان أما النقطة الثالثة فعامه تتجاوز مسألة المجاز وتتصل
بالممارسة الإبداعية ذاتها يظل الإبداع الشعري مغامرة فرد واحد ومحاولة
لتأكيد استقلال الشخص وتحقيق فرادة الذات أما الإبداع الهندسي فقد تحول إلى
ممارسة اجتماعية ذات طابع مؤسسي منظم الإبداع الهندسي في حالة تفاوض
وتلاقح دائمين بين أعضاء فريق الإبداع والمؤسسة الإبداعية حيث يعمل أهل
التجريد وأهل التجسيد يدا بيد أو بعبارة أصح عقلا بيد هي من مخترعات
الثقافة التقنية وليس ثمة ما يعادلها في ثقافة النص.

أما وقد فصلت بعض التفصيل في الفرق بين الإبداعين فلا بد من تبيان الوجوه التي يمكن للإبداع الهندسي أن يغني بها الإبداع الشعري


  1. منحى اللغة الشعرية: لم يتعلم آدم الأسماء كلها لأنه لم يعرف الأشياء
    كلها الإبداع الهندسي خالق أسماء لأنه مبدع أشياء فحري إذا بآدم الشعر أن
    يسمي مع المهندس أسماء الأشياء كما سمى موجودات الطبيعة بغير هذا ينفصل
    الشاعر عن الحاضر المتجدد ولكنه بهذا فحسب لن يأتي بشعر متجدد لغة المهندس
    توسيع وإغناء للغة الشاعر غير أن قيمة لغة المهندس هي في تفاضلها أي في
    تمايزها الذي يعكس تمايز الأشياء الجديدة وقيمة لغة الشعر هي في تآلفها
    وتكاملها المهندس يميز ويفاضل والشاعر يؤالف ويكامل وما الشعر إن لم يكن
    تكامل لغة متفاضلة؟!
  2. منحى الأدوات الشعرية: الشعر كما ذكرت ينتمي إلى ثقافة النص غير
    أن المجاز يجعله الأقرب بين الفنون النصية إلى ثقافة الصورة. قوة الصورة هي
    في أنها تغني عن النص وقلما يغني النص عن الصورة بالتقنية تزداد الصورة
    دقة وكثافة معرفية وتزداد في الكشف غورا وللخفي إضاءة ماذا يمكن للشعر أن
    يستخدم من الصورة؟ وهل يستطيع النص الشعري بمحض مجازه أن يرتقي إلى مستوى
    الصدمة الحسية المعرفية للصورة التقنية؟
  3. منحى الرؤية الشعرية: قبل اختراع الطائرة كان طيران الإنسان قصصا
    أسطوريا ومجازا شعريا الطيران اليوم حدث عادي جدا يصعب إدراجه في رؤية
    شعرية كلية تكون على مستوى الأسطورة الأولى ثمة شعار لشركة يابانية يقول:
    ما يحلمه الإنسان تحققه التقنية ماذا أبقت التقنية للشعر من الحلم؟ ماذا
    أبقت له من الأسطورة؟ في الواقع الافتراضي، يدخل الإنسان في تجربة حسية
    حركية تستغرق كل الجسد وكل الهندسة الجديدة إضافة لما عرف الإنسان الأسطورة
    والشعر؟ أم أنها أسطورة جديدة بلا أبجدية؟ أسأل : في ظل تقنية تريني ألوان
    حروف رامبو الصوتية بل تدعني ألمسها وأشمها ما عسى رامبو أن يكتب؟ بعبارة
    ثانية: ما مستقبل الرؤيا الشعرية في ظل تقنية تكاد أن تنسخ الحلم؟ إذا
    التفت الشاعر المبدع إلى الماضي وكتب عنه لم يزل عن كونه شاعرا أما إذا
    التفت المهندس إلى الماضي وكتب عنه صار مؤرخا لكي يظل الشاعر جديرا باسمه
    عليه ألا ينفك عن السكن في المستقبل حتى فيما هو يكتب عن الماضي أما
    المهندس المبدع فلكي يظل جديرا باسمه عليه أن يكون كذلك البناء الذي بنى
    معبدا عظيما ثم زرع حوله غابة سنديان فمر على المعبد ثلاثمائة عام لم يمح
    فيه نقش ولم يخرب حجر إلى أن رأى الكاهن يوما مداميك في السقف قد تشققت
    فخاف على المعبد أن ينهار وعزم على استبدال مداميك جديدة قوية بالقديمة
    المهترئة ولكنه احتار من أي خشب تكون إلى أن رأى في الحلم البناء يناديه من
    غابة السنديان فعرف الكاهن معنى الحلم وفهم مغزى السنديان على المهندس ألا
    ينفك عن السكن في مستقبل المستقبل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

بين الهندسة والشعـر :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

بين الهندسة والشعـر

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: